الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية كثيرة. أفلام سينمائية عديدة نبشت بعضها، وروت جزءاً من حكاياتها الدموية. القتل والتغييب والدفن في مقابر جماعية أساليب اعتمدتها أنظمة ديكتاتورية نكّلت بشعوبها، وفرضت عليها صمتاً قاسياً. دول عربية عديدة مارست هذا كلّه أيضاً، ونظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لا يختلف عن المشهد الدموي في العالم. جرائمه ضد شعبه جزءٌ أساسي من تاريخ البلد وناسه. مخرجون عراقيون عديدون يستعيدون بعض الذاكرة في أفلام يُريدونها مرايا تعكس شيئاً من فظاعة الحكم. رعد مشتت عراقي مهموم بسؤال الجريمة. لكنه، باختياره الذهاب إلى إدانته البصرية حكماً قاتلاً ونظاماً مجرماً صنعهما صدام حسين، ارتأى وضع قصّة موازية تمتلك خصوصية الحياة الاجتماعية في بيئة قبائلية في جنوب العراق، مُسلّطاً ضوءاً على التداخل بين أخلاقيات القبائل وجرائم النظام و”براءة” أفراد تائهين بين قواعد صارمة تفرضها هذه الأخلاقيات، وشروط حياتية أقسى يمارسها النظام السابق.
“صمت الراعي” (مسابقة آفاق جديدة) منتم إلى فئة الأفلام العراقية التي تُدين نظام صدام حسين بشكل شبه مباشر. رعد مشتت لا يُحدّد الجريمة وتفاصيلها، لأن الهمّ الأساسي كامنٌ في ارتكاب الجُرم، وهذا يكفي له لتحقيق الفيلم. يضع الحدث كلّه في زمن واضح هو العام 1987، وفي جغرافيا واضحة هي جنوب العراق (قرية العيون). هذان التحديدان مفيدان، لأنهما يُساعدان على فهم البيئة ومناخها وطقوس عيشها، ويرافق المسار الدرامي بالإضاءة على تصرّفات بعض الشخصيات، أو طبيعة مجريات الأمور مع هذا البعض. إنه عام من أعوام الحرب المديدة بين العراق وإيران. كما أنه أحد أعوام البطش الصدامي الدموي ضد العراقيين.
تحديد المكان يؤشّر إلى الانتماء المذهبي للشخصيات، وتحديد العام يؤشّر إلى تداعيات تلك الحرب على الناس. لكن المسألة قد تكون في مكان آخر: الصمت ونتائجه، سواء كان الصمت من تأثيرات البطش الصدامي، أو من آثار التربية العشائرية. بمعنى آخر: قد يعود سبب الصمت إلى قدرة الوحشية السلطوية على منع الجميع من الكلام، وقد يعود أيضاً إلى الخوف مما يُمكن للقول أن يفعله. الراعي صابر سقط في الصمت، على الرغم من أنه الشاهد الوحيد على حقيقة ما جرى. وصمته “يُفجّر” البلدة كلّها، لأنه أخفى ما شاهده عن رجال العشائر، ولاذ في صمته حتّى الجنون.
في صبيحة أحد الأيام، تجمع الصدفة مسارات عديدة، تؤدّي إلى وقوع الجميع في قبضة الشكّ. الراعي صابر شاهد جُرماً من جرائم جنود صدّام حسين، فارتعدت فرائصه خوفاً من إلقاء القبض عليه وسوقه إلى الموت. لكنه، في اللحظة نفسها، شاهد حقيقة ما جرى للصبيّة زهرة (13 عاماً)، التي خرجت من بيت أهلها لجلب المياه ولم تعد، فلاذ بالصمت أيضاً، مُفضّلاً التقوقع في عزلته، على الرغم من التأثيرات السلبية جداً لصمته هذا في أحوال عائلة الصبيّة وأقاربها والبلدة برمّتها. في الوقت ذاته، سعود شاب في مقتبل العمر، يحمل أوراقه ويغادر منزل شقيقته وابنتيها بهدف السعي إلى ترتيب وضعه “العسكري”. لكنه يختفي تماماً، ما يؤدي إلى الشكّ في كونه مسؤولاً عن اختفاء زهرة.
تُرى، أين هي زهرة؟ لماذا اختفى سعود؟ ما الذي جعل صابر أشبه بمن فَقَد عقله؟ زوجة الراعي تقول له مساء، عند عودته إلى بيته بعد أن شاهد جريمة قتل مواطنين عراقيين ودفنهم في مقبرة جماعية: “ما بك يا صابر، تبدو كأنك عُدت من الموت”. فيُجيبها شارداً ومرتجفاً وقلقاً: “نعم، عدتُ من الموت”، من دون أن تفهم هي ما المقصود بذلك. يعود من الموت، ويدخل الصمت، ويترك البلدة تنهار في تمزّقاتها. شقيقة سعود لا رجل لديها (لا زوج ولا ابن ولا أخ)، ما يؤدّي إلى غياب أي حصانة اجتماعية لها. والد زهرة يحلف أمام الجميع أنه لن يجلس مع الرجال، وسيتخلّى عن هيبته إلى أن يغسل عاره بيديه. والعار، هنا، نابعٌ من شكّ لديه بأن زهرة “غادرت” برفقة رجل.
هذا كلّه مغلّف بنسق درامي يمتد على مائة دقيقة، كان يُمكن اختزالها قليلاً، لأن لقطات عديدة بدت أطول من الحاجة الدرامية إليها. حساسية المواضيع المطروحة مُشبعة بحس إنساني، والتداخل بين مسألتي الشرف العائلي القبائلي وجرائم القتل الجماعي يذهب بالحكاية إلى لحظة درامية واحدة (على المُشاهد أن ينتظر إلى ما قبل نهاية الفيلم بقليل، ليكتشف الأسرار كلّها). فلاختفاء سعود سببٌ خارجٌ عن إرادته، وغياب زهرة لا علاقة له بالشرف والعار، لأنها لم تخرج على قواعد القبيلة وقوانينها. أما جنون شقيقة سعود فمسبّباته واضحة، تماماً كالانهيار البطيء لوالدة زهرة، حتى بلوغها لحظة الاصطدام بالحقيقة المرّة. أبناء العائلة الكبيرة متضافرون بعضهم مع البعض الآخر، ويمارسون سلطتهم كمن يُمارس السلطة في البلد، ويعيشون وفقاً لسلوك لا يخلو من العنف (وإن كان مبطّناً أحياناً عدّة) والتسلّط. هذا كلّه في سياق فيلمي واحد.
إذا كان الصمت سمة المنحى الحياتي للناس، فإن الصرامة والتزمّت والالتزام الأعمى بقوانين متشدّدة اجتماعياً وتربوياً داخل البلدة والجماعة تُضيف كلّها سمات أخرى لفيلم ذي حبكة قصصية مهمّة، تجلب بعض التاريخ إلى الراهن، وتعيد التقاط اللحظات الماضية كي تؤرشفها في صُوَر سينمائية.