صمت دبق لا يليق بحجم الفاجعة. آلاف سرادق العزاء تنتشر في محافظات العراق لشهداء شباب قضوا وهم يقاتلون خفافيش الظلام القادمين من كهوف التاريخ. الدفاع عن الوطن شرف ما بعده شرف، لكنه حين يتحول إلى مجرد شعارات في لعبة يتقنها تجار الموت، تتحول أرواح أبنائنا إلى مجرد وقود يديم عمل مرجل الموت الكامن تحت الكثبان السياسية التي تتناقلها رياح مصالح الدول الإقليمية وهي تهب متى ما يحلو لها وفي جميع اتجاهات بوصلة الدم العراقي.
صمت مبتل يحيط بفضيحة الطائرة الروسية التي تحمل أربعين طنا من الأسلحة والتي حطت مضطرة في مطار بغداد بعد أن رفض مطار السليمانية استقبالها. الكرد يرمون التهمة في ملعب المركز. البرلمان ينوي إجراء تحقيق. الكتل السياسية منشغلة، كعادتها، باتهامات بعضها بعضا دون أن يجرأ أي منها على الاقتراب من دائرة الفضيحة التي تحمل الموت معلبا أنيقا لأبناء العراق وهو مدفوع الثمن من ثرواتهم المترتبة على تصدير نفطهم الذي تعبث به داعش بدعم وإسناد قوى وشخصيات عراقية وتركية وأمريكية وروسية وإيرانية معلومة للجميع.
إنه انخراط، مع كامل الاصرار، في لعبة التواطؤ على زراعة الرؤوس المقطوعة في غابة اللوثة الاثنية والطائفية التي تتحكم بالعراق، واستمراء للعبة تسويق الحرائق التي تلتهم بيوت الله ومراقد أنبيائه وأوليائه، وتمهد الأرض لكي توسم هذه الأرض بميسم اليهودية التي بشر ابنها المفكر الفرنسي الكسندر آدلر بأنها سترث الشرق الاوسط.
رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي منشغل بتعقيم المؤسسة الأمنية من الجنرالات الفاسدين والفاشلين، النمور الورقية التي أنتجتها ثقافة الفساد وفوضى “الدمج” التي وزعت النجوم والنياشين بعد أن جثم الاحتباس العقلي على مقدرات الدولة التي تعاني من موت سريري قرابة الأربعة عقود. العبادي الذي يعي قواعد اللعبة الدولية والإقليمية، لا يريد في اللحظة الراهنة الخوض في وحولها ولا يريد الاقتراب كثيرا من لعبة الكبار الذين يشاركون داعش خطواته وخططه لتثبيت مخالب الشيطان في خارطة الجسد العراقي. هنا أتحدث عن دواعش الداخل وهم سياسيون من الوزن الثقيل. هؤلاء في الأصل وكلاء معتمدون لأبو بكر البغدادي وسفراء معتمدون للدول الداعمة له. هم من يستقتل لتمرير قضية الطائرة الروسية المحملة بالأسلحة والتي من المفترض أن تصل لمقاتلي تنظيم داعش كي يستمروا بنشر خرافاتهم التي يسوقونها باسم الله في المنطقة التي هي بالأصل خارج مسار التاريخ.
العبادي لا يريد فتح أكثر من جبهة في ذات الوقت. لكن ما يحققه من انجازات في جبهة، تأكله الاخفاقات المتعمدة في جبهات أخرى. وهو قد يتمكن من التقاط اللحظة بعد محاصرة الفساد، وقد ينتفض أيضا، في لحظة أخرى، خارج سياقات الكتل وعواصم صنع القرار العراقي، وخارج طبخاتها السرية أيضا. حينها قد يتمكن من قطع الأيدي القذرة، لكنه سيحتاج إلى معجزات أربعين نبيا ليتمكن من استئصال الأدمغة القذرة التي عرقلت وتعرقل بناء الدولة العراقية.
فضيحة الطائرة الروسية الجاثمة في مطار بغداد الدولي تشي بأن ساحة المعركة الحقيقية مع داعش هي في داخل مفاصل الدولة العراقية قبل أن تكون في سوح القتال الممتدة على أكثر من محور وأكثر من مدينة، وان الانتصارات التي يحققها شباب العراق من جيش وشرطة وحشد شعبي لن تحقق أهدافها الحقيقية ما لم يتم القضاء أولا على دواعش الداخل. حينها سوف يختزل زمن اعلان النصر الكبير في المعركة، وحينها، فقط، ستورق زهرة عند رأس كل شهيد من شبابنا الذين ضحوا في معارك استعادة الأرض والكرامة.