تطرح الاحداث الاخيرة والمستمرة والتي كان من ابرز محطاتها احتلال البرلمان والاعتداء على بعض النواب واقتحام مكتب رئاسة الوزراء والتظاهرات التي قادها التيار الصدري، تساؤلات عن هذا التيار الذي تصدر المشهد بطروحاته المختلفة واداءه المتغير والمتناقض احيانا وعن زعامة هذا التيار صاحب القدرة الاكبر على تحريك الحشود ومستقبله السياسي, بعد اقترابنا من ذروة فشل (العملية السياسية) التي ابتدأت في 2003 وتعاني اليوم من انسداد شبه كامل متمثل بقوى سياسية, فشلت في ادارة الدولة, بل وحتى ادارة شؤونها الخاصة واستنزفت ثروات البلد ولا تعترف بفشلها ولا ترغب بالتغيير الذي يحرمها من المزايا الهائلة التي حصلت عليها في ظرف استثنائي مبني على معادلات مؤقتة لازالت تجهد نفسها في محاولة الحفاظ عليها مقابل جمهور محبط وغاضب لم يعد يطيق هده القوى ويبحث عن تغيير جذري لا يمكن ان توفره هي لا من حيث الافكار، ولا من حيث الادوات. واذ لا يمكن استثناء التيار الصدري من هذا الوضع لكن لايمكن تجاهل قدرته المختلفة والمميزة في تحريك جمهور واسع من الناس وهو امر فقدته القوى الاخرى التي لم تعد تملك صلة حية بالواقع وتحيا دون جمهور, سوى اولئك المنتفعين باشكال مختلفة, وهكذا فان التطورات اللاحقه ستعتمد بشكل كبير على مصير التيار الصدري ودوره ومن هنا جاءت فكرة المقال.
ان اي محاولة لفهم طبيعة التيار الصدري لن تنجح دون فهم قيادته وتحليل سلوكها وتفكيرها وهو امر سنفعله في سياق المقالة وبشكل غير مباشر, فهذه القيادة متمثلة بمقتدى الصدر الذي يختم التيار بطابعه الشخصي الخاص والذي يجعل من المستحيل الفصل بين الصدر والتيار حتى لاغراض الدراسة والتحليل, فرغم المؤهلات البسيطة لزعيم التيار وضعف المهارات السياسية وعدم وجود شرعية دينية متمثلة بلقب ديني ورغم العديد من المواقف المرتجلة والمرتبكة وفساد وسوء اداء العديد من مساعديه فانه لازال زعيم التيار بدون منازع والوحيد في تياره القادر على تحريك وايقاف الجموع.
إن مقتدى الصدر لم يخطط ليصبح قائدا وانما جاءته القيادة تسعى اليه في ظرف محدد احتاجت فيه جماهير ابيه الى رمزية لم تتوفر لدى احد غيره اذ لعب الموروث الشيعي دورا اساسيا في ذلك فالشيعة عموما لديهم ما يشبه العقدة من ترك الامام بدون نصير كما حصل مع الامام الحسين بن علي الذي ظل ينادى اما من ناصر ينصرني دون مجيب, واذ لم تتح الفرصه ايام صدام لنجدة السيد محمد محمد صادق الصدر الذي قضى اغتيالا، فان جمهورا واسعا من فقراء الشيعة معبأ نفسيا بضرورة المحافظة على حياة الصدر الابن ونصرته في معاركه دون الاهتمام بالتدقيق في ماهية هذه المعارك او حتى الوقوف عند الشرعية الدينية للصدر بوجود مراجع لهم شرعياتهم.
من الضروري التاكيد ان جمهور الصدر رغم انه يتحرك متاثرا بالميراث الشيعي إلا انه متأثر ايضا باصله الاجتماعي، فهذا الجمهور معظمه من فقراء الشيعة الذين قد لا يكونون من الملتزمين دينيا، لكنهم لايملكون الوعي الكافي او الثقافة لاختيار الاطار الذي ينتضمون فيه للدفاع عن مصالحهم فيكون الاطار الديني هو المكان الطبيعي لاستيعابهم في ظل الوضع السياسي الاستثنائي الراهن وسيادة الخطاب الديني وهي اشكالية موجودة في مجتمعات اخرى لكن الخصوصية الشيعية هنا تاتي من التراث الشيعي الذي يختزن الاحساس بالظلم الذي رمزيته احداث التاريخ وجوهره الواقع السيئ الذي كان فيه اغلبية الشيعة يعانون من الفقر وعدم العداله وشبه غياب للتمثيل السياسي في بلد للحزن فيه مدرسه عريق لها رموزها وتقاليدها التي تعود لالاف السنين وقبل الفتح الاسلامي وهو ما اثر بعمق في ثقافة وحياة العرب المسلمين القادمين من جزيرة العرب.
وهكذا فان غالبية الجمهور الصدري مشكلتهم ليست مذهبية او دينية او طقوسية انما هم امتداد لتيار عريض من الشيعة ظل معترضا بصمت على مؤسسته الدينية, لكن ظروف صراع الهوية مع الحكم في بغداد الذي كانت له الولويه لم يسمح بظهور هذا الاحتجاج او الاعتراض الى ان ظهرت شخصية السيد محمد محمد صادق الصدر وفي ظروف خاصة حتى التفت حوله جماهير غفيرة من الشيعة جلهم من الفقراء,ورغم انه لم يكن واضحا ذلك البعد الطبقي في الاصطفاف بسبب الظرف الخاص الذي ظهر فيه الصدر ,لكن محمد محمد صادق الصدر وفر الشرعية الدينيه التي لابد منها لانتقادات تيار واسع من الشيعة الفقراء للمؤسسة الدينية ثم لاحقا بالتوزيع العادل للثروة كاولوية قبل الطقوس.
لقد حفز ذلك كثيرين من فقراء الشيعة على ادارة الظهر للمؤسسة الدينية الشيعية التي لم تلتفت في الماضي لمعاناتهم الانسانية والاقتصادية لحساب الدفاع عن الهويه كاولويه مطلقه بل ان الارستقراطيه الدينيه الشيعية احتقرت فقراء الشيعه من مدينة الثورة ببغداد وغيرهم من فقراء جنوب العراق واتخذت مواقف سياسية تحت الغطاء الديني والشرعي غير ابهة بجمهورها المتضرر من هذه المواقف. فقد ناصبت الزعيم عبد الكريم قاسم العداء وتحالفت مع خصومه من الرجعيه السنيه الذين اعترضوا على قراراته لخدمة الفقراء ومعظمهم من الشيعة..
عندما سقط نظام صدام في 2003 لم تكن هناك في بغداد قوى سياسية لها جمهور واسع سوى الصدريين الذين لم يكونوا قد تبلوروا بشكل واضح كتيار سياسي لكن هم كانوا الوحيدين على الارض في ظل فراغ امني وسياسي غير مسبوق تم ملاه رسميا وبشكل عام بقوى الاسلام السياسي المهاجرة والتي في الغالب هي متفرعه من مدارس قريبه من المؤسسه الدينيه الشيعيه وهو امر استفز الصدريين الذين رؤوا انهم الاحق بتمثيل الشيعه وعجل باتخاذهم مسارا سياسيا واضحا استدعى اختبارا للمصداقية فلم يجدوا افضل من شعار محاربة الاحتلال الذي لم يكن رائجا الا في المناطق السنية للحصول على شرعية سياسية وذلك بتشجيع ودعم من ايران التي كانت تنسج خيوط سيطرتها على العراق وتلعب على معظم الاحصنة السياسية والمسلحة بمهارة وداب شديدين.لقد استغرق كل ذلك جهود التيار وحرفه عن ممارسة دوره كممثل لفقراء الشيعة,رغم ممارسة العمل السياسي باداء لم يختلف في جوهره عن اداء الاحزاب الدينية الشيعية بما في ذلك التورط في الفساد.ومع كل تجربه ومعركه خاضها التيار كانت هناك تغييرات تحصل تمثلت بالانشقاقات وتاسيس قاعدة للتاثير الايراني ,وايضا بسبب الطبيعه الملتبسه للتنظيمات الدينيه وعدم وجود منظومه فكريه تحدد مسارات الحركة الدينية السياسية، وتنظم اطارها فقد تكونت مصالح لكل قيادات التيار مع مشاركته بالعملية السياسيه وهي مصالح كبيره طبعت التيار وخاصة قيادته التي لم تعد قادرة على العمل بالشروط السابقه, وفي غضون ذلك لم يتحقق عن طريق التيار اي شيء جدي للفقراء عموما وفقراء التيار خصوصا وبدا فساد الدوله التي اصبح الصدريون احد اعمدتها بالانتشار والاتساع حتى طال اسماء هامة وقياديه في التيار دون اي اجراء من قبل القياده الصدريه التي اصبحت رسميا وعضويا جزءا من النظام السياسي الفاسد لكن جمهورا عريضا من الصدريين الفقراء ظل منخرطا في التيار ومن عوامل قوته وذلك بسبب هيمنة الخطاب الديني المنسجم مع وعي وثقافة الجمهور, والقادر على نسبة كل الاخطاء بل والجرائم والتجاوزات والفشل الى عوامل خارجية اضافه الى خلو المنظومة الفكرية الدينية في كثير من حركات الاسلام السياسي ومنها التيار الصدري من نظام المحاسبة المرتبط بالانجاز.
ان الاخطاء التي ارتكبتها قيادة التيار تؤثر سلبا على جماهيرته رغم ان ذلك قد لايبدو واضحا الان لكنه يتراكم كميا الى ان ينطلق بشكل نوعى ليطرح حقائق جديدة فبسطاء الناس لايرغبون بمس مقدساتهم وتغيير ثوابتهم لكن كثرة الاخطاء تمس القداسه بعد حين مما يجعل المصلحة تعود لتاخذ اولويتها عند الجمهور ..ليس مقتدى الصدر ولا عمار الحكيم ولا حتى المالكي الغير معمم هم في مواقعهم لانهم اكفاء او قياديين او هم كما المفترض في السياسة يعبرون عن مصالح فئات معينه لكنهم في ظل هذه المرحله الخاصه من تاريخ الناس في هذه البلاد ليسوا الا (كودات) او رموز تعني اشياء قد لا يكون لهم علاقه بها لكنه ميراث العرب, الذي يضيق بالمؤسسات والعمل الجماعي والتخطيط مفضلا عليها انماطا من الحياة لاتنتمي الى عصرنا فتهب للاشخاص ادوارا ليس لانهم يستحقوها لكن لانهم يشبهون رمزيا اشكالا او اعمالا او اشخاصا تاريخيه ,وهو امر ضروري لعمل الاحزاب الدينية .
لكن ورغم كل شىء فان الصدر رغم اخطاءه وافتقاره للكثير من المؤهلات فانه لايتحرك عبثا فالمصالح لاتحتاج كفاءات لادراكها والصدر يدرك مصالحه وهي انقاذ نفسه من السقوط المريع لمعظم اطراف العمليه السياسيه الذي سيترجم لاحقا اما عنفا او نبذا,غير انه كغيره من رموز العمليه السياسيه غير قادرين على التخلي عن المزايا الماديه التي حصلوا عليها فاصبحت حقوقا ولا عن نموذج الحياة الذي يعيشه قادة التيار.ان مصير التيار الصدري وان كان قد تحدد ستراتيجيا فان التوقيتات وشكل اخراج هذا المصير ستحدده ظروف لاعلاقه لقيادة هذا التيار بها اضافه الى الكيفيه التي سيتعامل بهامع الاحداث والطريقه التي تنتهجها بقية قوى الاسلام السياسي.ان زوال الاسلام السياسي في حقيقه مؤجلة من حقائق الحياة السياسة فهو اصلا لم يوجد لكفاءات ومهارات قياداته بل كان مجرد رد غريزي على محاولات طمس الهويه ,واذ كانت ثمة فرصه للتيار الصدري وغيره من قوى الاسلام السياسي كي يطوروا انفسهم ويؤهلوا تنظيماتهم ليصبحوا قوى سياسية تستند الى حقائق الحياة السياسية فانها انتهت الان لانهم انغمسوا بشكل كامل في تحقيق مصالح شخصيه وفئوية وبكل تفاصيل الحياة ما افقدها الاساس لتكون قوى سياسيه الا وهو تعبيرها عن مصالح قوى اجتماعية.الان هناك ضرورةلوجود قوة او قوى سياسيه بديله للاسلام السياسي تحمل رؤيه مختلفه وحلول وكان الامل في بعض القوى الموجوده اصلا لكن قصور الرؤيا ومشاكل في بنيتها منعتها من ان تنهض بدور يجعلها قوة المستقبل بعد دفن احزاب التاريخ ..ان الطروحات التي حاولت ان تستظل بجماهير التيار الصدري لتبرر تخاذلها وقصر نظرها ونفاذ صبرها بالحديث عن تحالف تاريخي موهوم استنادا الى فهم ميكانيكي للماركسيه وسذاجه سياسيهاثبتت وبشكل مبكر عقمها وعلى يد زعامة التيار الصدري ذاته في مغامرته الاخيرة التي كادت ان تتحول الى عنف وحواسم مع دخول فاعل لعناصر لها مشاريعها الخاصه المختلفه وهو امر سيحصل دائما بسبب طبيعة التيار الصدري وعنصره البشري والعنف الكامن داخله وعقلية قياداته, ان الواقع في اي مكان ناهيك عن الواقع العراقي المعقد لايحتاج الى حفظ النظريات السياسيه او الاجتماعيه, وفهمها فقط ولكن ايضا واكثر لمعرفة الواقع وكيفية انطباق النظريه عليه, في حين يسعى منظروا الكتله التاريخيه الى استجداء المساعدة من النظريه في كل خطوة , متناسين دور الفهم والتطبيق الخلاق لكل المعارف النظريه ,التي تغني المعرفه النظرية ولا تتعكز عليها.
لقد ارادت قيادة التيار الصدري تحقيق بعض المكاسب من خلال صيد اكثر من عصفور بحجر واحد فكانت النتيجه ان التيار هو العصفور الوحيد الذي اصطيد وباحجار القوى السياسيه جميعا.. فقد كان الحديث عن الفساد لبعض قيادات التيار قد اتسع بحيث لم يعد النفي ولا الاجراءات المحدودة ضد البعض كافيه, اضافة الى نقمة الجماهير على رموز الاسلام السياسي الاخرى,فرات هذه القياده ان توجه ضربة لشركائها في العملية السياسيه والفساد ترضي جمهورها وعموم الناس وتخرج قيادة التيار اقوى مزودة بشرعيه اضافيه ,ولكن ورغم مابدا نجاحا فان السحر كاد ان ينقلب على الساحر بخروج الامور عن المخطط..شعارات ضد ايران ,اعتداء جسدي على بعض النواب وخاصة الاعتداء ضد نائب رئيس البرلمان الذي كان هو بالذات يجب تحصينه من اي تجاوز ولاسباب سياسيه كون الاكراد لديهم علاقات جيدة مع الصدريين وصلت للتحالف ضد المالكي. ان جماهير التيار هي اقل مما ظهر في المظاهرات والاعتصامات وان جمهورا كبيرا اشترك تحت راية التيار فيها ليس من التيار وهو جمهور ليس قليل تتحكم في مواقفه عوامل عدة منها النجاح والفشل وفقدان المصداقية ,وهذا الجمهور اوجزء منه كان خاصة خلف عملية اقتحام رئاسة مجلس الوزراء دون توجيه من الصدر او قادة التيار حتى كادت الامور تخرج عن السيطرة,وبالطبع لايمكن اغفال وجود عناصر بعثية او غيرها من المعادين للنظام السياسي وهو امر طبيعي في هكذا تجمعات ,من دون ان يغير ذلك في الحراك وطبيعته .
ان الفقراء والفقر ليسوا وصفة للتغيير الجذري,فالحركات الفاشيه التي كالت الضربات لممثلي الفقراء السياسيين في تجارب عديده في العالم كانت دائما مليئه بهم,اذ لا يصبح الفقراء ثوريين تلقائيا بل هم في حاجه للوعي وللاطار الصحيح وهو مالا توفره القياده الصدريه..سيبقى التيار الصدري في الميدان لبعض الوقت لكنه سوف يتراجع وبحسب الممارسه السياسية للقوى السياسية الاخرى والوضع السياسي العام,ومدى نجاح التيارات السياسيةالعلمانية في الاستفادة من فشل الاسلام السياسي,فهو استنفذ معظم اسباب وجوده ومحاولات تمييزه عن قوى الاسلام السياسي الشيعي الاخرى فشلت لان القيادة الصدرية غير مستعدة لدفع الثمن المتمثل بالعف عن مزايا السلطة او المشاركة فيها والتخلي عن المصالح الذي وفرها العمل السياسي ولذا وبعد فترة من التحول تطول او تقصر حسب الظروف السياسية فانه لن ينفع بعد ذلك اية كاريزما او شرعية دينية فالولاء الديني في النهاية ليس بديلا عن المصالح التي قد تختفي خلف الاصطفافات الدينية لوقت طويل لكنها تبقى هي الاساس في تحديد المواقف النهائية .