لقد قرأت بتمعن وشغف كتاب د. عبد الجبار الرفاعي” الدين والظمأ الانطولوجي” ط2، والذي صدر عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد 2017. بدأت بقراءة مقدمته، لكني لم أتمكن من التوقف، فانجذبت الى قراءة الكتاب بالكامل. انه سفرٌ مشوق يحمل بين طياته قلباً وجدانياً مفعماً بالحب والايمان، وفكراً ناضجاً عميقاً، نيراً وصادقًا. كلماته تعبر عن ذاته لذاته وللآخرين. إنها خبرة حياة وأيمان بكل معنى الكلمة، وليست اجتراراً للسلف، ولا ترديداً لطقوس جامدة، ولا تدينا زائفًا.
كتاب أتمنى أن يقرأه كل رجل دين مسلم ومسيحي، وكل أنسان مؤمن، لأنه في النهاية باعتقادي، سيقوده إلى أن يعبد الله “بالروح والحق”، كما يقول السيد المسيح (إنجيل يوحنا 4/13). لأن من يقرأه سيزداد معرفة وتنويراً وحقاً وحباً لله…
أقول ومن دون مجاملة وجدت الكتاب سفراً غير معتاد من مسلم، يتحدى الجمود “الاكليروساني- الاسلامي” عن معرفة وخبر، فجاء مبدعاً ومحركاً. عبد الجبار الرفاعي “ابن الحوزة العلمية”، يتكلم عن خبرة ذاتية، وعن علاقة شخصية بالله، ويتكلم عنه بمنطق الايمان وليس بأسلوب فلسفي – ميتافيزيقي، أو بكلام الصالونات، أو باجترار للسلف، بلا تاريخ، “عود أبدي” كما يسميه عندما يروي سيرته الشخصية في الفصل المخصص عن سيرته والمعنون “نسيان الإنسان” ص 35-90. استمتعت جداً جداً بسيرته الذاتية، والتي أتمنى أن تتحول إلى فلم أو مسلسل يعلّم الجيل الجديد كيف يكون عصامياً بجهد شخصي”بعرق الجبين”، وليس بطريقة أخرى سهلة!
الكاتب لا يريد أن يعيش على الحدود، ويرفض البكاء على الأطلال، أو التغني بالأمجاد كما يفعل العرب عموما، بل يريد الإبحار إلى العمق إلى الجوهر ليكشف ما فيه من جديد الله في جديد الإنسان، وجديد الزمن، كما يروي في الفصل المخصص عن سيرته.
ما يشدّ في الكتاب أنه يحكي ببساطة عن خبرة حياة ايمانية، عن انسان يقيم علاقة شخصية معمقة مع الله فيتكلم بشجاعة الأنبياء عن أن الإيمان ثورة حب، ووجدان، وغفران، وروح وليس ممارسات جوفاء ( ص 74.. الخ). يتكلم عن إنسانية الدين ويعطي الطمأنينة والأمان. يتكلم عن خبرات الإنسان، وتساؤلاته، وأوجاعه، وقلقه، وأحزانه، وأفراحه الصغيرة، وآماله الكبيرة، وخيباته، وإمكاناته، وطاقاته التي من خلالها يظهر الانسان بكل جماله.
القيامة في الحياة والحياة في القيامة.لأن الحياة مشوار الى القيامة. ومن ليس قائما منذ اليوم، لا يقوم إلى الأبد! القيامة هي الحياة الحقة التي لا تولد، بل تبدع كما سطرت. الإيمان (وليس التدين)، الفكر، الحب، خدمة الإنسان هي الخلود.
انه يتواصل مع البدايات الممتازة، مع الينابيع الأصيلة من أجل “الأصالة والمعاصرة”، والا تتخشب المعطيات ولا تقول شيئاً ذا معنى لإنسان اليوم كما فعل المسيح مع” الفريسيين، علماء الشريعة والذين سماهم:”القبور المكلسة” (متى 23/27).
يشدد الرفاعي على أهمية الدراسة المقارنة للأديان، التي يتجلى فيها الجوهر الروحاني العميق لها، فيكتب: “الدراسة المقارنة للأديان والفرق والمذاهب ضرورة تفرضها النزاعات الدينية في مجتمعاتنا. المنهج العلمي في دراسة أية ديانة لا يصح إلاّ بالعودة إلى نصوصها المقدسة، ومدوناتها الحافة بهذه النصوص. مالم يتسع حقل مقارنة الاديان والفرق والمذاهب بين الدارسين والباحثين في المعارف الدينية، لا يمكن تصويب سوء الفهم والأحكام المسبقة، وحذف الكثير من الاخطاء المتراكمة في فهم اتباع ديانة أو مذهب لمقولات اتباع ديانة أو مذهب أخر. سوء الفهم والأحكام المسبقة تتوالد منها أحكام أحادية اقصائية حيال الآخر، وتتحول إلى منبع تستقى منه حالات التعالي، وازدراء الآخر، واحتقار ديانته وتراثه. وسيجد الباحث عبر المقارنة الموضوعية للأديان انها تنشد تكريس واثراء الجوهر الروحاني للانسان”.
وفي الحوار الذي أُجري معه في الصفحات (175- 216 ) والذي عنونه: “لا خلاص للدين إلاّ بالخلاص من أدلجة الدين وإعادته الى وظيفته في إرواء الظمأ للمقدس”، يجيب الرفاعي عن الأسئلة العظمى للدين: “معنى الوجود والخلود والاخلاق والطقوس والقوانين …”. ويسعى بشجاعة لتحديث التفكير الديني في الإسلام وخطابه، ولربما هنا جواب غير مباشر على من يفكر بلا منطقية الدين، أو يخطف للتحريض على الإكراه والقتل والدمار.
الدين خلق وإبداع وليس جمود وتحنيط، سفر دائم الى الآفاق البعيدة، لاكتشاف معنى الأحداث والأشياء، وإيجاد أبجدية جديدة تنطق وتشحن وتحرك وتغير. الدين يدعو الى تخطي ثقافة الكلمات الى ثقافة المعاني.
كتاب عبدالجبار الرفاعي يتكلم عن عبور متواصل، قادر على الحضور في زماننا، من خلال تجدد يومي في الحياة، واحتفاء دائم بسر الوجود، وصلة حية بالله. كي نولد في قلب الله… أليس هذا هو الايمان؟
لا يدعو للحب باسلوب مبسط، وانما يحاول أن يتعمق في تفسيره، ليشرح جذوة الحب الملهمة، بوصفه حالة تحققها الذات وتتحقق بها، ويكشف عن شيء من طبائع الشخصية البشرية. يكتب الرفاعي: “الانسان كائن مسكون بطلب الحب. الحب من أصعب اختبارات المرء في الأرض، وأغناها عطاء. حب الناس من أشق المهمات في حياة الانسان، ذلك أن الكائن البشري كثيراً ما يتعذر عليه أن يحب غيرَه. الحب لا يُتخذ كقرار، وانما هو حالة تتحقق وتوجد في الذات، وتتحقق وتوجد بها الذات في طور أجمل. الحب لا يُمتلَك إلاّ بعد تربية طويلة، وتزود بخبرات الشفاء من الكراهيات الغاطسة في الذات، ومقدرة الانسان على مراجعة سلوكه مع غيره وكيفية تعامله مع الناس، وشجاعة نقد وتقويم الذات، وبصيرة تمكنه من اختبار سلوكه مع الناس بمقارنته بما ينفره من مواقفهم معه، فكل ما يزعجه منهم يزعجهم أيضاً لو صدر منه. الانسان أعمى عن أخطائه، لأنها مألوفة لديه، ولفرط تكرارها أضحى مدمناً عليها بشكل يمنعه من رؤيتها أخطاء، وعادة فإن ما يصبح مألوفاً في حياته يتعذر عليه أن يراه قبيحاً. الانسان ليس كائناً آلياً، بل هو بطبيعته أسير ضعفه البشري، لذلك لا تجف منابع الغيرة في أحاسيسه، ولا تموت نزعات الشر في أعماقه، ولا يكف عن الصراع مع غيره، ولا يتوانى عن اللجوء للعنف مع خصومه. تلتقي في نفس الانسان الكثير من الدوافع والرغبات المتضادة، المنبعثة من مكبوتات متنوعة مترسبة في ذاته”.
أتمنى أن يقرأ هذا الكتاب كل رجل دين مسلم ومسيحي، حتى تكون له شجاعة الأنبياء في تبليغ الناس رسالة الايمان، وليس الغلاف الذي ينسى الانسان. هذا الكتاب صرخة موجعة أمام الواقع المرير، انه نداء يتوجه إلى ضمير كل مؤمن مسلم ومسيحي. ويتمنى هو، وأتمنى أنا أيضاً: أن يجد صدى ما في حياتنا.
أتمنى ألا يستمر صوت د. الرفاعي وحده حتى النهاية، بل أترقب أن يكوّن حوله مدرسة من طلاب فكر وإيمان ونور ومحبة وخير، فيعيد الى الدين جوهره وصفاءه ممن خطفوه وشوهوه!
(*) مار لويس روفائيل الأول ساكو، بطريرك الكلدان الكاثوليك منذ شباط 2013. حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة البابوية في روما عام 1983، وماجستير في الفقه الإسلامي سنة 1984، كما حاز لاحقا على شهادة دكتوراه من جامعة السوربورن سنة 1986، ألف ونشر ما يزيد عن 200 مقالاً، و20 كتاباً في مجالات اللاهوت والدين.
(*) عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي كتب وترجم العديد من الكتب الفكرية والفلسفية المهمة، وحاصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة الدين، وسوّق مشروعه الفكري عبر مجلته النخبوية “قضايا اسلامية معاصرة” التي يرأس تحريرها منذ تسعينيات القرن الماضي، وتعتمد في أكثبر من جامعة عربية واسلامية.