صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

(عزازيل) المراوغةُ في تكثيفِ الإيهام مابينَ المتخيَّل والتاريخي

 
السرد يتخيل التاريخ

 

ما يتفرد به الخطاب السردي في المشروع الروائي عندما يعود الى وقائع تاريخية من قبل الروائي،أنه يتوقف امامها ليتأملها بمخيلته،ثم يعيد قراءتها في بنية سردية مفارقة عنها،وكلما زادت شقة الافتراق عنها كلما كان اكثر قربا من الخطاب الروائي،واكثر بعداً عن السرد التاريخي.

 

في هذا المشغل الفني لعالم الرواية بما يملكه من مفردات وتقنيات وأدوات لتفكيك وتركيب الواقع والوقائع،لعب المخيال الروائي لزيدان دوره في مشروعية الحضوروالهيمنة التخييلية في إعادة تشكيل الواقع والوقائع الموضوعية/ التاريخية في بنية معمارية، وفق رؤيته الذاتية كمؤلف سارد للتاريخ،له الحرية في أن يستثمر ادواته التقنية في مايريد أن يسردهُ،معتمدا على طاقته التخييلة وهو يتعامل مع الواقع أو التاريخ.

 

رواية عزازيل باعتبارها مخطوطة فنية تنهض فيها الاحداث من ماضي بعيد ـــ النصف الاول من القرن الخامس الميلادي ـــ انطلاقا من منظور سردي/ موضوعي ينزوي فيه المؤلف زيدان،متسترا بقناع شخصية اخرى ــ وهذه تقانة جوهرية في الفن الروائي ــ هي شخصية المترجم/ مؤلف ضمني.

 

ابتكر مخيال زيدان شخصية المترجم ليفتتح عبر المقدمة التي جاءت على لسانه الصفحات الاولى من مخطوطته ممارساً من خلالها مع القارىء لعبة مرواغته الفنية، وذلك في خلق الايهام بالواقع وهو يدخله الى عالم الرواية المتخيل، انطلاقا من مدخل الواقع والتاريخ، الى الحد الذي يتماهى فيه الحد الفاصل مابين الحقيقة التاريخية والصورة المتخيلة.

 

هذا ما مضى به زيدان من خلال المقدمة التي كتبها والتي جاءت على لسان شخصية المترجم التي افترضها، والتي من خلالها اوضح قصة الرقوق الثلاثين التي تم العثور عليها في خرائب على حافة الطريق الواصل مابين حلب وانطاكية، وكيفية العثور عليها وكيف تعامل معها لمدة سبعة اعوام وهو يترجمها من اللغة السريانية الى اللغة العربية: “يضم هذا الكتاب الذي أوصيت أن ينشر بعد وفاتي، ترجمة أمينة قدر المستطاع لمجموعة اللفائف (الرقوق) التي اكتشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الاثرية الواقعة الى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية.. ولست واثقا من أن ترجمتي هذه الى العربية قد نجحت في مماثلة لغة النص السرياني بهاء ورونقا.. وقد جعلت فصول هذه الرواية على عدد الرقوق التي هي متفاوتة الحجم. وقد اعطيت للرقوق عناوين من عندي،وتسهيلا للقارىء ايضا استعملت في ترجمتي الاسماء المعاصرة للمدن التي ذكرها الراهب هيبا في روايته…..”.

 

بعد هذه المقدمة التي لم تتجاوز الصفحتين،تختفي شخصية المترجم تماما،بعد أن اكتمل دورها في المهمة الموكلة إليها في تعميق وتكثيف الايهام لدى القارىء بأن مايقرأه قد استند الى وقائع تاريخية،ولكي تكتمل عناصر اللعبة التي يمسك بطرفيها زيدان،فسح الفضاء الروائي لحضورشخصية الراهب هيبا لكي يصبح الصوت السارد الأوحد للأحداث بدلا عن شخصية المترجم التي تختفي نهائيا.

 

دائرية الزمن

 

ينطلق الزمن السردي للأحداث بالتدفق بطريقة دائرية،بالشكل الذي تتداخل فيه الازمنة وهي تتحرك مندفعة للأمام ومن ثم تعود الى الخلف وهكذا دواليك، لكن الزمن الروائي يتوقف في لحظة الحاضر: “هاهي الايام الاربعون قد مرت، وتم اليوم التدوين”. أي أن سرد الحكاية في بنية الزمن الروائي ينتهي في الحاضر، إذ يعود الى نفس النقطة التي ابتدأت فيها لحظة السرد: “سأبدأ من الحاضر،من اللحظة الحالية، من جلستي هذه في صومعتي التي لايزيد طولها ولاعرضها عن مترين.من القبور المصرية ماهو أوسع منها…”.

 

تركيبة الزمن الدائرية هذه التي شكلها زيدان في بناء المسرود الحكائي،جاءت على لسان الراهب هيبا/ الشخصية الساردة للأحداث،عندما يفصح عن حيرته في اختيار لحظة بدء التدوين: “فالبداية والنهاية، إنما تكونان فقط في الخط المستقيم، ولاخطوط مستقيمة إلاّ في اوهامنا، أو في الوريقات التي نسطر فيها ما نتوهمه. أما في الحياة وفي الكون كله، فكل شيء دائريُّ يعود إلى ما منه بدأ ويتداخل مع ما به اتصل. فليس ثمة بداية ولانهاية على الحقيقة، وما ثمَّ إلاّ التوالي الذي لاينقطع، فلاينقطع في الكون الاتصال، ولاينفصم التداخل، ولايكف التفريغ ولا الملء ولاالتفريغ.. الأمر الواحد يتوالى اتصاله،فتتسع دائرته لتتداخل مع الأمر الآخر، وتتفرغ عنهما دائرة جديدة تتداخل بدورها مع بقية الدوائر. فتمتلىء الحياة، بأن تكتمل دائرتها، فتفرغ عند انتهائها بالموت،لنعود إلى ما منه إبتدأنا..آه لحيرتي،ماهذا الذي أكتبه؟”.

 

الصراع مع الذات

 

هيبا كان مطاردا من قبل عزازيل ـــ الذي هو الشيطان نفسه ـــ وهو يتنقل بين البلدان والتجارب. فالجدل والصراع بينهما كان قائما، فعزازيل كان حريصا على ان يوقظ في داخله رغبات ومشاعر وهواجس انسانية تتقاطع مع زهده عن الحياة ويثير في داخله اسئلة تجعله متأرجحا وقلقا في ايمانه وقناعاته فتتولد في ذاته شكوكا تتعرض لما كان مؤمنا به من عقيدة مسيحية اختارها أن تكون طريقا له في الحياة بعد أن كان ابوه على دين ابائه واجداده من الفراعنة،حتى انه شهد مقتل والده ـــ وكان عمره لم يتجاوز الثانية عشرة ـــ عندما كان برفقته على قارب الصيد،حينما خرج عليه مجموعة من المسيحيين كانوا قد تربصوا به عند معبد قديم يعتكف فيه مجموعة قليلة من الكهنة الفراعنة، اعتاد والد هيبا ان يجلب لهم خفية وقبل شروق الشمس نصف مايصطاده من السمك كل يومين.

 

عزازيل لم يكف عن مطالبة هيبا بتدوين كل مارآه في حياته مع ان هيبا على النقيض منه كان مؤمنا بأن لاقيمة لحياته اصلا حتى يدون مارآه فيها: “انقذني ياإلهي الرحيم من وسوسته لي،ومن طغيان نفسي.انني يا إلهي لازلت انتظرمنك إشارات لم تأت.. ولو ترتكتني لنفسي، اضيع ..فقد صارت نفسي معلقة من اطرافها،تتنازعها غوايات عزازيل اللعين ونكايات اشواقي”.

 

في ليلة السابع والعشرين من شهر ايلول وبعد أن قرر الأب هيبا أن يعتكف في صومعته لمدة اربعين يوما لأجل أن يتفرغ للتدوين ــ وهو على ماكان عليه من حيرة ــ يبدأ في تدوين ماهو كائن في سيرته، واصفا مايجري حوله ومايضطرم بداخله من اهوال. على غير ماكان عليه من نيّة عندما اشترى الرقوق الثلاثين:” ياإلهي الرحيم،لك المجد،تعلم أنني أقتنيت هذه الرقوق قبل سنين،من نواحي البحر الميت، كي أكتب فيها أشعاري ومناجاتي لك في خلواتي،ليتمجد اسمك بين الناس في الارض مثلما هو مجيد في السماوات.وكنت أنوي أن أدوَّن فيها ابتهالاتي التي تقربني إليك”.

 

يبدأ الأب هيبا التدوين ليحكي ماجرى بينه وبين مرتا الجميلة من غوايات وعذابات، وماكان من أمر عزازيل المراوغ اللعين، وماعاشه من حكايا منذ اللحظة التي خرج فيها من بلدته الواقعة في جنوب مصر باطراف بلدة اسوان ووصوله الى الاسكندرية، والعلاقة الحميمة التي سقط فيها مع اوكتافيا، وخروجه مرعوبا من الاسكندرية بعد الذي شاهده فيها من غلوِّ وتطرف لدى قساوستها وهم ينجحون في اقناع عامة الناس وتحريضهم على قتل وسحل وحرق هيباتيا الكاهنة الفرعونية الجميلة، التي كانت تدرِّس علوم الرياضيات والفلسفة،ومعها اوكتافيا ــ التي حاولت الدفاع عنها وإنقاذها ــ المرأة التي كانت قد ارتبطت بعلاقة حميمة مع الأب هيبا قبل أن تطرده من حياتها بعد أن اخبرها بأنه مسيحي وليس على ديانة الفراعنة التي كانت هي عليها. يخرج هيبا من الاسكندرية هائما مرعوبا مما رأى متجها الى اورشليم،لينتهي المقام به في دير صغير يرقد في أعلى جبل قرب انطاكية.

 

يوسف زيدان في هذه الرواية التي تدور احداثها في منتصف القرن الخامس الميلادي نسج عالما ينبض بالحياة والصراعات الفكرية والعقائدية/ الدينية. والرواية تتصدى لفترة زمنية خصبة شهدت أفول عالم قديم بكل اساطيره ومعتقداته لينهض فوق انقاضه عالم روحي جديد، ومع ذلك، تطل منه مشاهد متطرفة، بعضها لاتهدأ إلا بالدم والسحل والحرق لأناس لاذنب لهم سوى انهم يحملون فكرا آخر يتحرك خارج السياق العام الجمعي، فكان القتل عقابا لهم، كما تفعل الان بعض التنظيمات الاسلاموية المتشددة. تلك الممارسات تلقي بظلال قاتمة على من كان يبحث عن الحقيقة كما هو الحال مع الراهب هيبا وهو يتوغل في رحلته بحثا عن الخلاص الروحي بينما ذاته قلقة تتأرجح مابين العالم الميتافيزقي الذي يعيش مفرداته وبين علوم الفلسفة اليونانية والرياضيات بعد أن جعلته الكاهنة الفرعونية هيباتيا يعشق دراستها عندما حضر درسا لها في اول يوم من دخوله الى مدينة الاسكندرية.

 

 

 

إقرأ أيضا