صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

علي الشوك المتعدد في واحد: حداثة مزدوجة.. وتشظّي وعي

 

تبدو المشابهة بين شاعر شعبي مثل حسين القسام، عاش في العراق الجنوبي عند بدايات القرن العشرين، وكاتب فريد لا شبيه له في الثقافة العراقية الحديثة، “نبت غريب على بيئة العراق الثقافية” كما اُطلق عليه مرّة، هو علي الشوك، غير مفهومة للوهلة الأولى، خصوصاً في حال اعتمدنا السردية الحداثية القطعية الشائعة في العالم العربي وفي العراق، بالأخص خلال القرن المنصرم، حيث فرضيّة غلبة العصر والحداثة الحتميّة كاسحة ولا تناقش، والأهم من ذلك التفكير باحتمال حداثي آخر “ذاتي”، من حيث المصادر والاليات، يمكن أن يكون موجوداً قبل حضور الغرب، وظلّ لفترة حاضراً أو متحوراً، وقد يكون ما يزال حياً، لم تلغِ حضوره عقود من غلبة النموذج الغربي الحديث ومنهجياته، والأهم تصادم أو تعايش الحداثتين وانعكاسهما وتمظهرهما في الحياة وفي الثقافة، ما يجعل بعض ظواهرها مستعصيّة، لا بل مستحيلة التعيين أو تحديد الملامح، من دون الرجوع للعوامل التي صنعتها في غمرة ذلك الصراع، قبل الذهاب لقراءة وتحليل منجزها كحضور وكنص، كما هي حال علي الشوك، الذي ما يزال نبتاً غريباً، ما دامت قراءته ضمن الإطار والشروط المتضاربة التي صنعته متعذّرة حتى الآن.

 

تبدأ الحداثة الذاتيّة في العراق، بضوء التشكل الوطني الحديث، مع القرن السابع عشر، يوم بدأت مفاعيل الانقطاع التاريخي والانهيار المهيمنة منذ سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258 بالتراجع، ومسار تناقص السكان الذين هبط عددهم من 31 مليون نسمه، حسب تقديرات متواترة، إلى ما يقرب المليون، يتوقف أو يتراجع، برغم استمرار الطواعين والفيضانات والفوضى الانتاجية والاحتراب الداخلي، الذي خفّ وقتها على ما يبدو، مفضياً لتغلب نزعة تحالف قبلي تجسّدت أولاً في “اتحاد قبائل المنتفك” في الجنوب، وتبعته اتحادات أخرى أقل شأناً. ومن يومها، بدا تشكل العراق الراهن مرتكزاً للآليات التاريخيّة (من أرض سومر الأولى ذاتها) التي قامت فيها، وبناء لدينامياتها، الحضارة الأولى السومريّة البابليّة، والثانية العباسيّة القرمطيّة، قبل حضور الغرب المتأخر، والذي بقي خارجياً حتى عام 1917، يوم احتلال الانكليز العسكري لبغداد (1914/ 1917)، وقد حضر من دون تمهيد ولا مقدمات فعلية تذكر.

 

مرّت عمليّة التشكّل الوطني العراقي الحديث بحقبتين: الأولى قبليّة، والثانية دينيّة تجديديّة، لم تخلوا من التعبير المناسب في المجالات المختلفة، ومنها الأدب، وتطوّر اللهجة “الحسجه”، ومذاهب الشعرية (الابواذية، الميمر، الخ) والحكمة، والقمم الأمثولية المقاربة للملحمة الوطنية (حمد ال حمود، حسن الصويح، والشيرازي)، والشعرية، مثل: فدعة، والحاج زاير، أرفع قمتين شعريتين إلى الوقت الحاضر.

 

عبدالامير الركابي

 

بضوء سرديّة كهذه، يمكن وضع ظاهرة حسين القسام (الشاعر الشعبي الدادائي الفريد والغريب المثال)، بخانة الانكسار العنيف للمسار التحديثيّ الذاتي أمام الحضور الغربيّ الداهم وحداثته، فهو قد ظهر تماماً في الفترة التي تكرّست فيها الوطنية الايديولوجية بعد العشرينات، ما قد نمّ عن أزمة ومأزق عميقين، أصابا مسار التشكّل الحديث الذاتي واعترضاه بعنف، ما انعكس حساسيّة شعريّة فريدة لدى موهبة استثنائية، أفصحت عفوياً عن تضاربات عالمين شديدي الحضور والتنافر، ما يلقي ضوءاً حتى على الدادائية الأصل،

 

الأوروبية من حيث ظروف ظهورها هي الأخرى ضمن لحظة تمزّق جمعيّ وصدمة نتجت عن اختلال في المشروع الأوروبي الحديث، بعد الحرب الأولى وخلالها.

 

وكما الحال مع حسين القسام، تكرّر الابهام المؤدي لشبه استحالة تصنيفية، مع ظاهرة ثقافيّة عراقيّة مميّزة، تفرّدت ضمن بنية الثقافة العراقية منذ الستينات، في وقت بدأ التفارق بين الحداثة الأيديولوجية، صنوة “الوطنية الحزبية”، وبين الواقع، ينمو ضمنياً وبقوّة على وقع ما آلت له ثورة 14 تموز 1958 وبدء علامات هزيمة مشروع الحداثة، وتراكم أسباب خروج قوى الحزبية الايديولوجية من صدارة المشهد والفعل. وعلي الشوك بدأ حياته عضواً في واحد من الأحزاب المذكورة، هو الأبرّ من بينها وأكثرها يسارية، وعمل جزئياً بعد ثورة تموز 1958 ضمن مشاريعه الثقافية، هو العائد من دراسة الرياضيات في الولايات المتحدة الأميركيّة، مبعوثاً في الخمسينات، والذي درس قبلها الهندسة المعماريّة في بيروت الأربعينات.

 

وما يزال الشوك لم يتحوّل أو ينقلب على مناخ الحزبيّة اليساريّة وهو في السابعة والثمانين، والمسافة بينه وبينها جد قصيرة، لا تكاد تلحظ، وان بدت اقلاب لدين شخصي، فهو ما عاد عضواً حزبياً منذ وقت طويل، فعلي الشوك له انتماءه الذي يجنّبه الاضطرار لأن يكون منشقاً وملعوناً. وما اختاره من تعبير عن الافتراق والتبرؤ من انتمائه الأول وأثقاله، ليس مما يشغل بال الذين خرج عنهم، فهؤلاء تهمهم السياسة والحزبيّة المقابلة للحزبيّة، النافية لها، وقليلاً (حتى وإن أظهروا غير ذلك) ما يقيمون اعتباراً للثقافة، حتى وإن كانت من نوع ما يسمّونه وهم يشيرون لعلي الشوك منبهرين: “الذهاب بعيداً، لدرجة الانسلاخ”. فصاحب “الأطروحة الفنطازية” التي تداخل الرياضيات بالموسيقى والشعر، و”الدادائية”، وقبلهما “الاوبرا والكلب” الفريد في بابه عربياً وليس عراقياً وحسب، لا يقع أصلاً ضمن ممكنات استيعاب القيّمين على الحزبيّة أو توقعهم وأفقهم الذي يتملّكهم، ويقاس بناء عليه الإبداع بنظرهم.

 

وبالعموم، فإن ظاهرة علي الشوك تقع خارجهم، على مسافة من انشغالاتهم المباشرة العمليّة، بحيث لم تتح لهم الفرصة ولا اضطروا يوماً لإفراد وقت، يبدو ترفياً ونافلاً، غير أنه متعذّر، يخصّصونه للتفكير في تصنيفه أو إيجاد خانة له، في وقت عاد فيه المهمل المحال إلى الماضي بقوّة غير متوقعة، فتزايدت الإبهامات والظواهر غير القابلة للتصنيف، بالأخص مع البروز المباغت، على وقع ثورة تموز 1958 مباشرة، لنموذجي شمران الياسري، القوال وحكيم “الحسجة” الكبير الثاقب والروائي، ومظفر النوّاب، القمّة الشعريّة الشعبيّة الأخيرة، ثالث الثلاثة، هو وفدعة والحاج زاير، ليذكّرا بقوة حضور وانبعاث الحداثة الذاتيّة من جديد.

 

فهاتان الظاهرتان ظلّتا أيضاً إلى اليوم غير مصنّفتين، واستمرّتا مصادرتين من معسكر اليسار الحداثي، الذي يحتار ويضطرب أمام قوّة انتسابهما للتحديثيّة الذاتيّة المتراجعة ظاهراً، أمام أحاديّة التحديث المستعار المفترضة، وتغوّل المنظور القطعي. فتصنيف من هذا القبيل يظلّ منوطاً بنظرة محايدة للمقطع الثقافي المجتمعي لم تظهر بعد، ما يضفي على إجمالي المنظومة التفكريّة العراقية إبهاماً غير محلول، يقع في قلب الأزمة الوطنيّة العراقيّة المستمرة، الأمر الذي ظلّ يتطلّب نمطاً من المقاربة متعذراً على حداثيين يستمرّون في تصوّر الواقع على وفق ما يظنّون ويفترضون ذهنياً، محوّلين إياه لمخطط “استعارة”، في وقت تعود لتنبثق مفاجآت كبيرة، كأنها وليد غائيّة تاريخيّة مضمرة معاكسة، تلغي ما يكون قد ساد من مطلقات. إلا أن علي الشوك ليس شمران الياسري، فهو بغداديّ من كرادة مريم، ودرّس الرياضيات في الكاظمية شمال بغداد مدّة 20 عاماً (تعتبر حالة مظفر النواب منذ ” للريل وحمد عام 1959″ استثناء، فهو بغداديّ أيضاً، من أصول كرخية، ثم كظماوية، لكنه عني بالريف الجنوبي ولهجته “الحسجة” وإيقاعه، وذهب للعيش هناك

 

لفترات، وقد يكون للشعر وحساسيته نمط تجسّد مختلف عن ذلك العائد للنثر والأفكار). ولعل هذا أسهم في صناعة منشقٍ على طريقة المديني، شحيح المصادر البيئيّة الذاتيّة الأساس، يتعذّر عليه أن لا يبقى داخل بيت الحداثة المستعارة نفسه، سكنا ووفاء، بينما يظلّ منشقاً عنه، نفسياً. لم يكن علي الشوك مؤهلاً مثل شمران ومظفر للاعتراض المباشر، حتى مع البقاء ضمن دائرة وحافات البيت الحداثي الوافد وحواليه، مع إلحاح المطالبة شبه العلنيّة بتغييره وتبديل محتوياته.

 

وقد يكون خيار علي الشوك الأصعب، إلا أنه ومن بين ما فكّر به من خيارات مرهقة على الأرجح، وما اعتبره مجنبا للاحتكاك أو التصادم، تعويله على قدرات شخصيّة خاصة، صنع منها حداثته المفردة الخارجة عن الإيقاع العام، المشفوعة بالغزارة وتعدّد الأصوات المنبعثة من شخص واحد. فعلي الشوك في “الأطروحة الفنطازية” و”الدادائية بين الأمس واليوم” شاعر يتحدث في شأن علميّ فريد، بينما هو في سيرته الروائية، “السراب الأحمر” و”مثلت متساوي الساقين”، واقعيّ اشتراكيّ خشبيّ اللغة، ليعود ويتحوّل باحثاً عادياً في “أسرار الموسيقى”، أو في قراءاته عالم أجداده السومريين وممارساتهم الجنسية، ما يجعل المراقب المدقّق يشعر أحياناً بأنه أمام كتّاب متعددين يتشاركون اسماً واحداً، بحيث أن افراده يتطلّب جمعه المتقصّد والواعي، ما يزيد اقترابه من عالم الإبداع الصرف بذاته، ويمنحه استقلالاً يضطر المحيطين به لاتباعه وملاحقته، مقطوعي الانفاس، بدل إضفاء صفاتهم الجاهزة عليه، كما اعتادوا.

 

لا شكّ أن علي الشوك وليد محنة واصطراع (مثله مثل حسين القسام الذي قفز من دون علّة منطقيّة، نحو نمط من البوح شديد الغرابة، مثل الداداية، وعفويا) لمبدع كبير، لم تكن طاقته متوافقة، أو قابلة للتوافق، مع المعتاد والبديهي، فذهب إلى حيث ترك سؤالاً كبيراً ما فتئ يرافق تاريخ التحديثيّة العراقيّة، القصير والحاد، بخصوص احتمال أو حقيقة كون الحداثة، ومنذ وجدت في العراق، كانت مزدوجة ومصطرعة بعنف، أم أنها أحاديّة ونهائيّة مع رجحان للنمط الغربي بالفعل، بحيث جعلت من رموزها الكبار شخصيات تراجيدية محكومة لإيقاع صراعي شديد الوطأة، تطلّب دائماً وبإلحاح فرادة جبّارة، تجعل منهم هم بذاتهم “معسكراً” مستقلاً، يجبر الهيئة الايديولوجية على قبوله، حتى برغم انغلاق نموذجها وافتراقها القطعيّ، حيث لا يبقى حاضراً غير ألق وهيبة المنجز.

 

كان على صحراء الأيديولوجيات، مجبرة، تعلّم المباهاة الإجبارية بسجل من نوع “أسرار الموسيقى” أو “الاوبرا والكلب” و”الأطروحة الفنتازية” و”كيمياء الكلمات” إلى “تمارا” و”موعد مع الموت” و”الثورة العلميّة الحديثة”، إلى “جولة في أقاليم اللغة والأسطورة”، وصولاً إلى “تأملات في الفيزياء الحديثة”، انتهاء بـ”السراب الأحمر” و”مثلث متساوي الساقين” و”أحاديث يوم الأحد” و”ستندال”، حيث تنهض غابة ما تزال قيد الدرس، يحفّ بها كأنما عناد ضدّ الزمن، قد تنتمي ربما لمحاولة صناعة عالم ما بعد حداثة عراقيّ، ينتظر أن يفصح عن قوّة الدوافع المحفزة داخل بيئة مرّة حارقة، كأنها عيش على حافة الفناء، تعاند كأنما حتى الحصّة التي قررها القدر من العمر ( ولد الشوك عام 1930، ومظفر النواب في وقت قريب من ذلك، أما شمران فتوفي في حادث سير خارج العراق). ثمة صراع يتحوّل إلى رهان حتى ضد القدر، كأنه لازمة لتحقق مشروع مكتوب له، فردياً، التملّص من وطأة الحكم السائد الشديد القسوة، نحو الغامض اللا محدد.

 

يستحق علي الشوك، الظاهرة الكبيرة، أكثر من تحرٍ مختلف، يركّز همّه تفصيلاً بين دفتي أعماله المتشعبة المتعددة، ففي عمل من هذا القبيل فقط يمكن الحكم على ظاهرة ما تزال وستظلّ قيد البحث. غير أن التعرّض له بداهة ووصفياً، وبالطبع إنشائياً، كما حصل في الماضي وإلى اليوم، حتى وإن ظلّ بالإجمال قليلاً ومتهيباً، من دون سويّة مؤهلة تتيح تعيين دلالات وحقيقة هذا المفكّر الفريد، ونمط دوافعه ومحركات وشروط إبداعه، والمناخات التي أسهمت في انبثاق وتشكّل ظاهرته، وهو ما حاولنا الاقتراب منه هنا، جهداً ربما أولياً، أملاً في انتشاله من بقايا سطوة منظومة التفكير المتاح والشائع، الأدنى بكثير من موجبات الإحاطة بالظاهرة الشوكية ومنجزها، كما هو متحقق داخل وخارج النصوص.

 

 

ينشر بالتزامن بين صحيفتي “العالم الجديد” و”السفير العربي”

 

إقرأ أيضا