صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

عناق الماضي والمنفى في (جلجلة الرماد) لاحسان السماوي

 

يحتاج القارئ للدخول الى عوالم قصائد ديوان الشاعر إحسان السماوي “جلجلة الرماد” الذي صدر عن دار دمشق في 2014، الى أكثر من قراءة. والديوان، الذي هو إصداره الاول، يتضمن 30 قصيدة لا تحمل تواريخ محددة تبين زمن كتابتها.

 

ما يزيد من صعوبة هذه القراءة هو عدم نشر الشاعر، حسب اطلاعي، سوى عدد قليل من قصائده على صفحات “الحوار المتمدن” فقط. ورغم ان اهمية الشعر لا تكمن في عدد القصائد المنشورة أو مكان الاصدار أو عمرها، الا أن ما هو منشور يساعد في تتبع تطور الشاعر، واكتشاف أدواته الشعرية اكثر مما لو اقتصر الامر على ديوان واحد صادر في زمن محدد.

 

يفتتح الشاعر الديوان بمقطع شعري من الشاعر الفرنسي سان جون بيرس ص5. وهذا التقديم كأنما اريد له ان يأخذ القارئ الى عالم الشاعر الداخلي الخاص به، وهو تقديم يرتكن الى مفهومين: المنفى والقصيدة باعتبارها رأسمال المنفى الوحيد، الذي هو الشاعر ذاته. كما الحقه باستهلال ثان، يعود له شخصيا، دون ان يحيد عن فكرتي المنفى والقصيدة التي تتلبس معنى آخر وهو الحرية. وإذا كان المنفى لدى بيرس يتجسد في عالم القصيدة المتخيل، ربما كتعويض عن العالم الواقعي الذي يهرب منه، فان منفى الشاعر السماوي يصبح اكثر ملامسة وواقعية، او كما يكتب هو “سهلة وقصيرة الطرق التي تؤدي الى روما، ولكنها طويلة ووعرة الطرق التي تؤدي الى الحرية ” ص6.

 

والسؤال الذي علينا الاجابة عليه بعد هذين المفتتحين: هل اكتفى السماوي بهذين الثيمتين في ديوانه أم أنه تعداهما الى موضوعات اخرى؟ والى أيّ مدى كان موفقا بذلك؟

 

ظلال المنفى!

 

نعثر في العديد من القصائد على ظلال المنفى شاخصة بعتمتها وقلقها، إلا انه منفى يتشابك مع ثيمات اخرى كالحب والحلم والماضي، بحيث ان حضور المنفى في هذه القصائد لم يكن هدفا بحد ذاته، بل سياقا وملمحا حياتيا للكشف عن اوجاع الشاعر وأفكاره الاخرى، فالحب في احدى قصائده يصير معبرا للاكتشاف والتّذكر:

 

“يتعرى كنقاء

 

الشمعة في اعتناقها الضوء

 

هو الحبّ ولحظات استيقاظه حلم

 

أسس لأشرعته الريح

 

ودوران مراياه المنتصرة على الفراغ ” ص17 – قصيدة ” الشمعةُ إفراط الحلم”

 

وهذا الحب يواصل إضاءة النسيان كنجم “يدلنا على سكن أرواحنا” ص18، ككائن حميم يكمن في ذكريات الماضي التي ما تزال جليّة

 

“في ما نسيناه في دفاترنا” ص18

 

صورة الماضي التي ترافق المنفى تعود ثانية في قصيدة” أعلى الترّقب “ص25 حيث الحنين والتطلع الى خلاص ما يلحُ بتوسل الى البحر:

 

“خذ بيدي أيها البحرُ

 

ياصديقي

 

فمن سيسأل

 

عن تبعثري وغرق أحلامي” ص27- قصيدة “كائن اسمه ألم”

 

وهذا الماضي الذي يتخذ احيانا صورة أليمة ، يصير في قصيدة اخرى” المنفى يضيء مائدة الألم”ص 63-65، وهو يستقدمه في منفاه، مشحونا بعواطف وحنين يشع عبرهما فرح خفي عن ذكريات المدن التي مرّ بها، والنهر الذي شهد وتغنى برحيله، والاشجار التي قام باحصائها، كأنه يعد بذلك حقيبة السفر الى المنفى مكتفيا بتجريدات الاشياء التي صادفها في رحيله، والتي ربما ستكون اكثر احتمالا في منفى لا يعرف أفاقه، حيث أرتدى الحنين نوافذ المساء :

 

“وإذ أحصي صفات الأشجار

 

في المدن التي مررت

 

أجد الحنين إرتدى نوافذ المساء ” ص63

 

والمنفى الذي يشبه حصار دائم غير معلوم يستدرج مع ذلك الطفولة المنكسرة الحزينة:

 

“وحين تلّمع شمس المنفى

 

أبوابنا

 

يؤاخذنا انكسار الطفولة” ص28- “قصيدة جلجلة الرماد”.

 

الحرب و تفاصيل الماضي

 

ولا يكتفي هذا التفقد للماضي، والذي يتواصل في حنين وذكريات وتفاصيل عن الطفولة والاب والمدن، كما في قصائد “ظل الذاكرة”ص52-53، و”سيرة صماء” ص 54-55، و”خريف الآباء” ص 69-.70، بهذه الملامح التي تبدو أكثر حميمية للشاعر، بل يأخذ منحى آخر، فيبدو اكثر عنفا في تداعيات الحرب والموت والخراب؛ حيث:

 

“تستيقظ بغداد

 

لتشهد موت

 

أبناءها عند الصباح

 

وتحصي خسائرها.” ص 48

 

يعمق هذا الموت المجاني الصامت مشهد يتصف بالغضب المكبوت والاستهجان كتعبير عن العجز الماثل في ظل تلك الحرب التي عاش تفاصيلها الشاعر او تعرف اليها، الى درجة أن الطفل لا يجد سوى أن يرفع عينيه الى السماء

 

“طفل يرفعُ رأسه الى السماء

 

وآخر يرقدُ ساكنا

 

متوجسا في مهده” ص48 – قصيدة “قفاز العروق” ص48-49

 

وتطل فكرة الحرب علينا ايضا في قصيدة “جلجلة الرماد”، لكن الشاعر يلمح اليها بصوره عرضية في تشكيل شعري تمهيدا لدخول عتبة المنفى.

 

“انهما الحرب والهدايا

 

زوجان مليئان بالعلّة الداكنة” ص38- قصيدة “جلجلة الرماد”

 

الا انني اجد صعوبة في فهم هذا الاقتران بين الحرب والهدايا، إذ اكتفى الشاعر بهذه الصورة الشعرية، التي كان بامكانه ان يعمقها الى اقصى وابعد حد، ويساعدنا على كشف كيفية كونهما شكلا أس العلّة الداكنة ؟ فجاءت فكرة الحرب مبتورة عن سياق القصيدة.

 

لكن الشاعر يعود الى فكرة الحرب في عشر لوحات شعرية بتفصيل اكبر في قصيدة “الأيام جنائز تحتفي بمرورها” ص28-33، إذ تصف كل لوحة حالة انسانية ووضع بشري وزمن او تجربة حياتية. والجنازات هي ترميز لحالة موت الجندي، وخيبة الشاعر، وتلاشي اللحظة، إكتشاف في السفر ،الفراغ ، الحلم، الشقيق والمنفى. ويمكن القول، انها قصيدة بمثابة جواب لنشيد ينشده الشاعر يقفله بجنازة الجنون كرد على الزمن الذي لا يبالي بما يحدث حوله من مصائب وخراب، ولا يهدي الى نهاية لهذا الصخب الذي تسبب في جنازات الموت والرعب والغياب والحرب والمنفى.

 

“يمضي زمنك

 

هو برق أبكم أصم لا يرى ما حوله

 

ولا يهدي الى هلاك الصخب

 

هذا جواب النشيد” ص33

 

وكأنما اراد الشاعر استخلاص كل تجاربه الذاتية في هذه اللوحات الشعرية.

 

اللعبة اللغوية ومخاطر التفريط بالمعنى

 

لا شك أن الشاعر إحسان السماوي يمتلك ثراء لغويا وخزينا من الصور الشعرية التي تهادت عبر قصائده وتجاورت من خلال موضوعاته. وهذا الثراء اللغوي يمكن ان يمنح قصائده زخما شعريا اكبر ويعمق المعنى فيها. فواحدة من مهام الشاعرهو خلق اللغة وتجاوز سياقات التعبير اليومية. لكن هذا الخلق ينبغي ان يجاوره حذر من الوقوع في مطبّات التركيب والنحت اللغوي المفتعل أحيانا، الذي يقود للاغراق وافساد المعنى والصورة الشعرية، ويربك توازن الاحساس في داخل القصيدة. كما ان مخاطر الوقوع في مأزق اللعبة اللغوي قد يقود الى التفريط بتشتيت تفاصيل و صور القصيدة وتغريبها تماما على المتلقي، بحيث تصبح عبئا حسيا اكثر منها فسحة للمتعة الجمالية والانسانية. هذا لا يعني توجيه دعوة الى الشاعر كي لا يتجاوز حدود المقبول، فهذه الدعوة باطلة لانها لا تمت الى الابداع بصلة ما. وتاريخ الابداع بكل حقوله يدلل على أن التجاوز الواعي هو الامكانية الوحيدة المطروحة للعبور الى التجديد والانفتاح على افاق جديدة من الخلق الابداعي. لكن هذه المهمة الصعبة والمعقدة تحتاج الى الكثير من التأني والحذر المعرفي والجمالي. وكما يبدو لي فقد اخلّ الشاعر الى حد ما بهذه المعادلة، اي الحفاظ على هذا التوازن في الخلق الشعري، بحيث كان مشغولا الى حد كبير بنحت تراكيب لغوية والعبور بها الى ضفة مغايرة اكثر من الانشغال بالتطور الداخلي الطبيعي للقصائد. فتعثر في ضبط بعض صياغات صور ومعاني القصائد، رغم انه نجح في بعضها الآخر. كنت أحس كما لو انه كان يكتب بعض قصائده وفي مخيلته شخص آخر كرقيب . وحين تتبطن الكتابة هدفا موجها الى الآخر، فانها بتقديري تفقد واحدة من افضل سماتها الابداعية، الذي اسميه “العفوية المبصرة”، اي اكتفاء الذات المبدعة بالتمتع الجمالي باعتباره هدفا أسمى، وترك التدفق العفوي للاحاسيس، دون ان يعني ذلك بالضرورة التخلي عن الوعي المبصر بالعالم والاشياء. وهي موازنة صعبة ومعقدة تحتاج الى مران دائم يضع فيه الكاتب او الشاعر ذاته في مركز اهتماماته.

 

ويمكنني ان اشير في هذا السياق الى بعض تلك الهفوات او العثرات اللغوية والصور الشعرية، التي اجدها مثقلة او فرّطت بالمعنى. فقد اثقل بعض الغموض والافتعال، صدق التجربة والأحاسيس التي تخللت ثنايا قصيدة ” شراك اليأس”ص59. فالتركيب اللغوي هنا لا يدعم خلق صور شعرية لإضاءة المعنى في القصيدة وإسناده لكي يفضي بالقاريء نحو عالم الشاعر ، بل يتحول الى عقبات توصيل ناشزة :

 

“الفارسُ الذي نسى جواده

 

عند مفازة الأحداق ” ص60- قصيدة ” شراك اليأس”

 

او كما في قصيد اخرى:

 

“لأنني أتلبس غناء الحدائق

 

ونوم الصوفيين

 

إزدادت في عمقي

 

شراهة ذهاب الأيام

 

كأي فصيل من التزاحم” ص23 – قصيدة ” الشمعة افراط الحلم”

 

أو “أزمنة تترهل بالطيران” ص20

 

ثم “القمرُ مكتظ ببقايا عثرات في ثنايا الاصابع” ص93

 

مقابل ذلك نجح الشاعر بتقديم صياغات لغوية شفافة تقترب وتبتعد في آن واحد من التصورات اليومية كـ”قبضة الشجرة”، “نشوة الحلم” ص8 “الليل يغسل ينابيعه” ص 11، “الشمعة في اعتناقها الضوء”ص17” مصطلحات الكتف “ص12 و”موت تأخذه عذوبة الجذور” ص19. رغم بعض الغموض في العبارة الاخيرة.

 

وفي العودة الى سؤالنا الذي طرحناه في البداية، يمكن الاجابة ان الشاعر إحسان السماوي أضاء العديد من الموضوعات كالحب والحرب والموت والطفولة وخسارة البلاد عبر عناق فكرتي الماضي والمنفى ولم يكتف بهما.

 

إقرأ أيضا