1
الرواية الآن
ماذا تستطيع الرواية العربية ـ العراقية أن تكتب عن إنسانها في هذا الزمان، وما هي الخلاصة الشاملة؟ ما هي الرؤية الفكرية، وما هو الموقف من العالم، الموقف الذي يستطيع الروائي العربي أو العراقي، بشكل خاص، استخلاصه من معاينة الواقع الإنساني عربياً وعالمياً؟
أي مفهوم وأية رؤية أو فلسفة يمكن ان تُستخلص من مواد وحوادث وتجارب هذا الواقع، وهذا المجتمع الذي بدأ يتشكل وما يزال منذ مرحلة ما سُمي بعصر النهضة وحتى الوقت الراهن، وهل استطاعت الرواية العربية ـ العراقية أن تقدم ملحمة هذا المشهد الإنساني والكوني المتغير والمتداخل، في بعض نماذجها على الأقل؟ هذه الأسئلة بحاجة إلى أكثر من بحث أو دراسة للإجابة عنها، لكننا في هذا الكتاب النقدي، الذي سيصدر لاحقاً، نحاول الإشارة لبعض الإجابات المحتملة أو المستخلصة من قراءاتنا النقدية المتنوعة لبعض النصوص الروائية العراقية، بشكل خاص، المغايرة.
ليس الواقع العربي ـ العراقي على ما يرام، ذلك ليس وضعه الآن فقط بل تلك إشكالية منذ سقوط الدولة العباسية وتدهور الحضارة العربية إلى أن غزت الجيوش الأجنبية المختلفة وصناعتها وثقافتها وتقاطعاتها بلادنا في القرن التاسع عشر، فمنذ القرن الماضي وبداية القرن الحالي وصولاً إلى الاحتلال الامريكي للعراق بدأ انهيار شامل في التركيب الاجتماعي والنفسي والفكري وانكسار في مفهومات الإنسان في بلادنا عن نفسه، وعن مكانه ومكانته في هذا العالم، من يومها حصل تبدّل إن لم نقل انكسار في القيم، وبدأ الناس وهم في تبدل قيمهم ينظرون في اتجاهين متضادين:
الأول يرنو إلى الماضي ويرى أن التخلي عن هذا الماضي هو المسؤول عن بؤس الحاضر، والثاني ينظر إلى المستقبل ويرى أن التمسك بهذا الحاضر الذي هو من بعض بقايا الماضي هو السبب وأن الحل إنما يكون في تبني أو النظر بطريقة مغايرة لمفهوم التطور والتحديث والتجريب، أي في أن يكون المثل الأعلى، للثقافة والفكر، في المستقبل لا في الماضي، وما يزال المجتمع العربي ممزقاً ومشتتاً بين هاتين الرؤيتين، واحدة تحلم بالماضي، بكل تداعياته، وثانية تحلم بالمستقبل، بكل طلاسمه، وكلتاهما أخفقت حتى الان في تحقيق حلمها، كلتاهما تعرض حلمها أكثر من مرة للانكسار والتشتت والهزيمة بينما المجتمع العربي، ونعني بالمجتمع هنا المجموعة البشرية العربية لا مجتمعاً بمعنى دولة واحدة، تجنباً للتأويل اللانقدي، ما يزال يعاني تمزقه، وفي تمزقه تتكسر أحلامه ماضياً ومستقبلاً، يميناً ويساراً، تيارات دينية عقائدية قومية وتيارات علمانية أو ليبرالية وربما تكون تلك الأرضية التي انبتت كثيراً من أدب هجاء الحاضر أو تيارات الردة والتطرف يميناً ويساراً، نحو الماضي أو نحو المستقبل، لكن المجتمع العربي ـ العراقي اليوم وغداً ما يزال يحلم بالتغييروالرواية العربية ـ العراقية الآن ما تزال، وستبقى، تكتب هذا الحلم المنشود.
على هذه الأرضية سوف تشيد الرواية (الآن) بنيانها، وفي هذا البناء الذي حجارته وبلاطته من هذا الواقع سوف تنسج الرواية أحلامها، لقد بقي المجتمع العربي والعراقي يئن في هزائمه، ثقافياً وسياسياً، أمام حكوماته، لكنه على الرغم من كل ذلك ما يزال يحلم لأنه مايزال حياً وما تزال العوالم الروائية تحلم أيضاً على الرغم من أن الزمن لم يفعل شيئاً مرئياً حتى الآن إلا تكسير هذه الأحلام وتبديدها، فالمجتمع العادل والحرية والعيش الكريم يبدو الآن أبعد من أي وقت مضى وهذا البلد العربي أو ذاك بات مهدداً بالخراب والدمار والموت أكثر من أي وقت مضى، من هنا نعيد سؤالنا الجوهري المستعاد: هل تستطيع الرواية أن تعيش أو تتمثل هذا الخراب والتمزق والجنون والحلم؟ علينا أن ننظر إلى المستقبل مشروطاً بضرورات الراهن، أي ننظر إليه برؤية تضعه في صورته الموضوعية المجردة كما تحققت راهناً، بهذه الرؤية النقدية يمكن للرواية أن تعيش أو تتمثل هذا الخراب الكوني.
2
لا فواصل للكتابة السردية
لكل خطاب روائي حدوده السردية اللانهائية، لذا لا يصح أن ننظر إلى الفن الروائي إلا في ضوء هذه الحدود، (والرواية غير قابلة للتصنيف) هذا ما يقوله الفرنسي جان ماري لوكليزيو، بمعنى آخر أنها جنس أدبي متعدد الأشكال، من هنا نتساءل: هل نستطيع أن نصف الكتابة الروائية بالإيجابية أو السلبية؟ وبأي معنى نُطلق هاتين الصفتين؟ هل نطلقهما بالمعنى اللغوي الذي نحدّد عبره قيمة جمالية فنية ومعرفية فكرية، وهكذا يمكن أن يكون نقدنا أو ردّ فعلنا تجاه هذه الكتابة الروائية أو تلك تبعاً لمنظومة أفكارنا وقيمنا أو حتى مزاجنا كقراء، أو تبعاً لدرجة وعينا الفكري والمعرفي وثقافتنا الفنية والنقدية، فتكون هذه الرواية أو تلك إيجابية أو سلبية تبعاً لوجهة نظرنا الفكرية والجمالية أو تبعاً لوجهة نظر نقدية مركّبة من هذه العناصر المتداخلة.
ثمة نصوص روائية جديدة تفعل فعلها في وجداننا كقراء وتجعلنا نفهم هذه الدلالة أو ذاك المعنى وتلك الخصوصية بطريقة مغايرة ومن هذه النصوص الروائية على سبيل المثال لا الحصر: (خضر قد والعصر الزيتوني لنصيف فلك، وحدها شجرة الرمان لسنان انطون، أساتذة الوهم لعلي بدر، فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي، القنافذ في يوم ساخن لفلاح رحيم، مدينة الصور للؤي حمزة عباس، بغداد مالبورو لنجم والي، مذكرات كلب عراقي لعبدالهادي سعدون، يمامة ـ في الألفة والألاف والندامة لسلام عبود، عشبة الملائكة لحسن الفرطوسي، النائم بجوار الباب لمحمد الحمراني، منازل الوحشة لدنى غالي، طشاري لإنعام كجه جي، السيد أصغر أكبر لمرتضى كزار، أفراس الأعوام لزيد الشهيد، حدائق الرئيس لمحسن الرملي، هواء قليل لجنان جاسم حلاوي، الضلع لحميد العقابي، كم بدت السماء قريبة لبتول الخضيري، مشرحة بغداد لبرهان شاوي، خلف السدة لعبدالله صخي، اعترافات تاجر اللحوم لحسين الموزاني، امرأة القارورة لسليم مطر، عراقي في باريس لصموئيل شمعون، رقص على الماء لمحمود البياتي، عصافير المومس العرجاء لسعد هادي، الحلم العظيم لأحمد خلف وغيرها من النصوص الروائية العراقية الجديدة) والكتابة الروائية الآن ليست خطاباً تلقيه الشخصية الروائية أو مغامرة تقوم بها بل هو نسيج العمل الروائي السردي نفسه ودلالته عبر الرؤية المعرفية المستخلصة من العمل الروائي ذاته أو العالم الفني ضمن شرط أو ظرف تاريخي قديم وجديد أو مستعاد استطاع الروائي أن يلتقط خلاله، أي من الآني والراهن والماضي الذي يعالجه أو ينطلق منه، ما هو إنساني وشامل، ما هو دائم في النفس البشرية وتلك مهمة كبيرة وصعبة قد لا تنهض بها إلا الرواية المنسوجة بخيوط التناقضات والتجاذبات والتقاطعات أو في رحابة الحياة أو التجربة في تنوعها وتناقضاتها وتعقيداتها ومفارقاتها، أن هذا الروائي الجديد، بفكره ورؤيته، أو هذه الرواية الجديدة أو تلك ليست قصة هذه الشخصية الروائية المحورية (البطل) بل هي الرؤية المعرفية والإنسانية الكونية المستخلصة لهذا الروائي أو ذاك، أياً كان تأويلنا أو اجتهادنا النقدي في تفسير وتحليل أو تصنيف وقراءة هذه الرؤية المغايرة أو تلك الفكرة التجريبية الجديدة المتجددة، من هنا يمكننا القول: الرواية العراقية الآن، تقف موقفاً معرفياً وعميقاً ومتفحصاً من الماضي والراهن والمستقبل، متحررة من كل أنواع القيود، تحاور الذات مثلما تخاطب الآخر، إنها وجهة نظر فنية فكرية مستقلة، وإضافة فنية جديدة للإرث الروائي العربي وتاريخ الرواية العراقية بشكل خاص.
3
التخلي عن اللغة التلقينية والقديمة
الرواية العراقية لم تولد كحركة أدبية مغايرة إلا في ما قبل الحرب وما بعدها، أي بعد أن انكسر السحر العقائدي الايديولوجي الوهمي الذي أسطر الحياة الثقافية العراقية وجمدّها بين اللغة العقائدية التلقينية والتجارب النضالية الوهمية والمصطنعة والأكاذيب، اليوم ولد نهر روائي عراقي جديد متجدد ومغاير، يقول الأشياء ويسميها، ويقترب او يتشكل منها بلا تردد ويعدد أشكال الرؤية، ثمة أسماء روائية مهمة ننتظر منها الجديد والمزيد من النتاجات الروائية المحملة بلغة فنية جمالية.
تبدو العلاقة بين الفن الروائي وتراكمات الماضي والحاضر وثيقة ولازمة وضرورية وهذا ما عبّر ويعبر عن نفسه في شكل فني ولغوي وجمالي جديد في الكتابات الروائية المتعددة والمتنوعة التي تبني الفضاء الروائي العراقي الآن وفي البحث عن دلالة الحقيقة الجمالية ورمزية التفاصيل وفنيتها والأحداث والأمكنة، وفي تأسيس لغة جديدة تضم إلى عالمها كوناً وتجعله جزءاً تكوينياً من البنية الملحمية المتصلة باللغة والفضاء الجمالي والرمزي.
الرواية العراقية اليوم تولد وسط صعوبات لا تحصى وتواجه الموت في شكل لا مثيل له، إن ما جرى للعراق في القرن الماضي من حروب وحصار وديكتاتورية وصولاً للاحتلال الأمريكي يكشف لنا عمق المواجهة، فكرياً ومعرفياً، وضراوتها وضروراتها في آن . إن ما يشهده الفن الروائي العراقي وخصوصاً في الوقت الراهن يدل على مؤشرات نهضة روائية جديدة وحقيقية، تكشف الواقع العراقي من خلال السرد التخييلي وتسمي الأشياء بلغة جديدة مغايرة يصنعها الكلام والتجارب والمحّن وليس القواميس، والرواية العراقية الجديدة تقدم، أيضاً، حقلاً معرفياً يستحق القراءة النقدية والدراسة والتأمل وينتج في الوقت نفسه حساسية جديدة تقترب من لغة التأريخ أو من كولاج الواقع أو من منبت السرد والحكاية والتجربة والمحنة العراقية الخالصة في تجارب الكثير من الأسماء الروائية العراقية.
الكتابة المغايرة المبدعة، ومنها الروائية، لا تقوم إلا في مناخ الحرية والكاتب، الروائي والشاعر والقاص والناقد.. الخ، هو مثقف بالمعنى التغييري الضميري للكلمة مثلما وصفه ادوارد سعيد في كتابة المعنون: (صورة المثقف)، إن هذا المنحى الثقافي الذي تصنعه عملية البحث عن إشكاليات الحرية هو الذي يقودنا إلى قراءة هذه الاعمال الروائية العراقية اليوم، فقد قدم الروائي العراقي الكثير من النصوص المغايرة التي صنعها (تفاؤل الإرادة) حسب تعبير انطونيو غرامشي، في عراق المفارقات وصنعها أيضاً تفاؤل العقل والمعرفة أي القدرة على النظر إلى الواقع والحياة والكون وتسميته والأعتراف بحقائقه ومكائدة ومتغيراته من أجل الوصول إلى المستقبل.
الرواية العراقية اليوم ليست حاجة لغوية فكرية وحسب إنها حاجة حياتية وجمالية، وهذا ليس كلاماً مجازياً أو مديحاً عابراً، إنه كلام من واقع الكتابة الروائية وتجلياتها، لقد تخلى الروائي العراقي عن اللغة القديمة وعن منظومة الصوت الواحد، فاللغة، حصراً، ليست بديلاً عن الواقع، إنها وسيلة لا للتعبير عن التجربة بل تفسيرها وسردها، بكل تصدعاتها، والاقتراب من الحقيقة الفنية، في اللغة أيضاً، هو تسمية الأشياء والتفاصيل والجزيئات والوقائع بأسمائها .
هامش: هذه المقدمة النقدية من كتاب نقدي قيد الانجاز، يتناول البعض من التجارب الروائية العراقية.