صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

فكفكةُ الحديث النبويّ

مشكلةُ الحديث، واحدة من أعقد المشكلات في تاريخ الإسلام. فهي تكشفُ عن العديد من المشكلات الناجمة عن الاشتغال بالحديث واتخاذه مصدراً ثانياً من مصادر التشريع. فالحديثُ يكشفُ عن ما يمكنُ أنْ أسميه: العقل الكسول الذي كان لدى الفقهاء ممن واجهوا المشكلات الاجتماعية المتجددة باستعارة عقل النبيّ ليفكّرَ بالنيابة عنهم في حلّ تلك المشكلات، أو إكراه أقواله وأفعاله على أنْ تكونَ هي القالبُ الذي يجبُ أنْ يسيرَ عليه الناسُ [يتأسّى به بحسب تعبيرات الفقهاء] من دون مراعاة للفارق بين البشر والأنبياء. وبدلاً من أنْ يقوموا بإعمال عقولهم لوضع قوانين لتلك المشكلات فإنهم اكتفوا بالاستعارة والقياس على ما كان، أو بكلمات أدقّ على ما كان قد وَقَعَ في زمان ومكان مختلفَيْن، متغافلين عن النظر في الواقع بالقفز عليه وتجاوزه. لأنّ السماحَ بالنظر في الواقع يكشفُ عن عمق الهُـوّة القائمة بين ما يسمونه: النظر والعمل في منهج الفقهاء والـمُحَدِّثين على حدّ سواء.

 

إنّ هذه الرغبةَ المثالية، كانت تصطدمُ بنمط التربية الذي كان سائداً في المجتمع العربيّ، فالإنسان أولاً وأخيراً يخضعُ للعادة وللمبدأ الذي نشأ عليه أكثر مما يخضعُ لمبدأ تفرضُهُ عليه مؤسسةٌ خارجيةٌ، فيجده غريباً على نفسه ومزاجه ونظامه الأخلاقيّ:

 

وهل أنا إلا من غَزِيّةَ إنْ غَـوَتْ   غويتُ، وإنْ ترشدْ غزيّـةُ أرشدِ

 

وعلى الرغم من أنّ الأحاديثَ هي نوعٌ من الأدب الأخلاقيّ الرفيع وتتضمنُ مبادئَ يمكنُ أنْ يُحتذَى بها، لكنها تظلُّ في النهاية خاضعةً لظروف النبيّ النفسية ومزاجه الآنيّ بين الرضى والغضب والشدّة واللين والمحبة والكراهية وسوى ذلك. وخاضعة لظروف تاريخية معينة لا يمكنُ استعادتُها ثانيةً عَبْرَ أطوار مختلفة من تقلبات التاريخ وتغيرات حياة الإنسان، من ذلك دليلُ الفقهاء في تحريم الصور الذي أخذوه من عدّة أحاديث للنبيّ: [إنّ أشدَّ الناس عذاباً يوم القيامة المصورون. من صَوّرَ صورةً في الدنيا كُلِّفَ أنْ ينفخَ فيها الروحَ وليس بنافخ. إنّ البيتَ الذي فيه الصورةُ لا تدخلُه الملائكةُ.] لكنّ هذا التحريمَ الذي كان في ظرف معين من تاريخ الإسلام، اصطدمَ بواقع آخر خلال الفتوحات التي كشفتْ عن أنماط ثقافية وحضارية مختلفة تماماً عن ثقافة العرب التي ظهرَ فيها الإسلامُ، ثقافات تحتلُّ الصورةُ فيها منزلة مميزة، ولذلك وجد الفرسُ مثلاً أنّ هذا التحريمَ غريبٌ فلم يلتزموا به. وعلى هذا، فإنّ الفقهاءَ كانوا لا يراعون الفارقَ الثقافيّ والحضاريّ، كما أنهم يتعاملون مع الإنسان باعتباره كتلةً مجردةً من المشاعر والإرادة، فاتسمتْ تشريعاتُـهم باللاواقعية لأنها تغافلتْ عن دراسة الواقع وتجاهلتْه، فهي تشريعاتٌ قائمة على أصول نصية بالأساس وليست على أصول وضعية تأخذ بنظر الاعتبار الملاحظة والتجربة والمنفعة. وهذه مشكلةٌ منهجيةٌ عويصةٌ في تاريخ الفقه الإسلاميّ، وربما في تاريخ الفكر الإسلاميّ كله.

 

الحديثُ، إذن، كان أحدَ أطراف المشكلة التشريعية في الإسلام، فقد اتخِذَ مصدراً ثانياً من مصادر التشريع باجتهادٍ من الفقهاء أنفسهم فقط، فلم يستند الفقهاءُ على علّة مقبولة لاتخاذ الحديث مصدراً من مصادر التشريع سوى أنهم وجدوا في النقل الوارد عن النبي ما يريحُ عقولَهم ويكفيها معاناة التفكير في وضع الأحكام. فقد جرى إحراقُ الحديث في زمن النبيّ بطلب منه كما يذكرُ رواةُ الحديث أنفسُهم، وذكروا أنه قال: “لاتكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فَلْيَمْحُهُ”. وجرى إحراقُ الحديث من قبل أبي بكر ومن قبل عمر بن الخطاب الذي أمرَ بـــ: “من كان عنده من السُّنة شيءٌ فَلْيُتْلِفْهُ”. فالنبيّ والخلفاءُ كانوا يُدركون، إذن، مشكلةَ الرواية العربية ومشكلة التزيّد في الرواية أو ما عُرِفَ عندهم بــ”الإسرائيليات” وسوى ذلك مما يمكنُ أنْ يخلقَ لاحقاً مشكلات على مستوى التشريع والحكم والتفسير. لكنّ الرواة استمروا في الجمع الذي شابَهُ كثيرٌ من التلفيق والاختلاق، فالبخاري مثلاً جَمَعَ من خلاله تَطوافه بالبلدان ستمائةَ ألف حديث اختارَ منها 7275 حديثاً فقط ونشرَها في صحيحه، مما يدلُّ على كثرة التزييف في الرواية. وكان البخاري قد شطبَ على مجموعة ابن جُرَيْج الروميّ الأصل وحكمَ عليه بأنه كان ممن “لا يُتابَعُ في حديثه”. وقد اعترف ابنُ العوجاء قبيل إعدامه في الكوفة في العام 272 هـــ أنه وضعَ بنفسه أربعةَ آلاف حديث من الأحاديث الـمُختلقَة. فالتزييفُ الذي لَحِقَ بالحديث، كان كما هو معروف لأسباب عديدة منها: النزاعات السياسية والمذهبية أو الأغراض الشخصية المتعلقة بالجوائز المادية التي يمكنُ أنْ ينالَها جامعو الحديث، وبالمنزلة الاجتماعية التي سوف يتنزّلونها في المجتمع. واشتملَ كتابُ الكافي للكليني وغيرُه من كتب الحديث المعتمدة لدى الشيعة شأنُها شأن المجموعات التي سُمّيتْ بالكتب الستة أو بكتب الصِّحاح لدى السُّنة، على الكثير من الأحاديث التي يرفضُها العقلُ والواقعُ، لما اشتملتْ عليه من الخرافات وحكايات اللامعقول كمعرفة الغيب والقيام بالخوارق والمبالغات الساذجة التي صيغتْ للتأثير في جماعة مذهبية معينة، أو استعمالها في الخصومات المذهبية التي مزّقتْ وحدة العرب والمسلمين. وقد وسّعَ الشيعةُ مفهومَ الحديث ليشملَ أفعالَ الأئمة وأقوالهم وتقريراتهم ومنحوها نفسَ قوة الحديث النبويّ، وفي أحيان كثيرة جردوها من سياقها ووظفوها في الجدل السياسيّ والمذهبيّ. فالمشكلة التي نطرحُها هنا، إذن، لا تتعلقُ في الحديث بذاته ولذاته، وإنما في كيفية توظيفه وجعله ينطقُ بلسان إيديولوجيا جماعةٍ معينةٍ. وقد اعتنى أصحابُ الحديث بالسند وملائمة الحديث لغرض الاستشهاد أكثر من عنايتهم بسلامة الأحاديث من “التناقض المنطقيّ وبصحة نسبته إلى النبيّ” كما يقول دي بور.

 

ولم يتخلّصْ أصحابُ الحديث من مناهجهم التي تضمنت الكثيرَ من الأحاديث الضعيفة، التي وإنْ أهملَها بعضُ الفقهاء فقد جرى إحياؤها لدى الجماعات السياسية واستُعملتْ بوصفها أداةً في الخصومات السياسية والمذهبية، فقد قال ابن حزم مثلاً واصفاً ضعفَ بعض الأحاديث في موطأ مالك: “إنّ فيه أحاديثَ ضعيفةً وهاها الجمهورُ”. وطرائقُ أصحاب الحديث ورواته معروفة في خضوعها لعوامل خارجية غير موضوعية، مثلما فعلَ البخاريُّ ومسلمُ اللذان تجنبا ذِكْرَ الأحاديث الخاصة بالأمويين لكسب ودّ العباسيين ومداراة لهم، بخلاف أحمد بن حنبل الذي ذكرها في مسنده، مما يشيرُ إلى فقدان الموضوعية لجامعي الحديث الذي اتُخِذَ مصدراً للتشريع الإسلاميّ.

 

إنّ خطورةَ الحديث، تتمثلُ في اتخاذه مصدراً لسنّ القوانين استناداً إلى تلك المجموعات التي تضمنت الكثيرَ من الأحاديث الـمُختَلَقَة أو المزيفة لغوياً ودلالياً. ومن ناحية أخرى، يكشفُ الحديثُ عن زيف منهج كتابة التاريخ العربيّ بإصرارها على الموثوقية حتى وإنْ “لم تستند إلى وثائق” كما يقول مؤرخُ تاريخ القرآن، المستشرق تيودور نولدكه. وقد كشفَ التضاربُ في الروايات عن عدم دقة المرويات التاريخية العربية. والفقهاءُ وعلماءُ الحديث أنفسُهم كانوا يدركون هذا المأزق المنهجيّ، فأرادوا أنْ يتلافوهُ عن طريق وَضْع مجموعةٍ من الاصطلاحات الـمُمَيِّزَة التي تبيّنُ مدى صِحَّة الحديث من زائفه كالحديث المتواتر والمشهور والآحاد والصحيح والحسن والضعيف والمرسَل والمنقطع والـمُعْضِل والشاذ والغريب من خلال ما عُرِفَ عندهم بـــ: علم الجرح والتعديل. ونتيجة لذلك اختلفَ الفقهاءُ بين كونها مُلْزِمة أو غير ملزمة في التشريع، لكنّ الذي غلبَ في النهاية هو الإلزامُ.

 

وفي وقتٍ شَهِدَتْ مصرُ ازدهارَ النقد التاريخيّ الذي شَمِلَ المرويات التاريخية والأدبية والدينية على يد علي عبد الرازق وطه حسين، قدّمَ محمود أبو رية أطروحةً قام من خلالها بعمل نقديّ كبير لما وصلَ إلينا من حديث نبويّ في كتابه المهم: أضواء على السنة المحمدية المنشور في (1957). فوجدَ أنه “لا يكادُ يوجدُ في كتب الحديث كلّها مما سموه صحيحاً، أو ما جعلوه حسناً (…) قد جاءَ على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه. كما نطقَ الرسولُ به، ووجدتُ أنّ الصحيح منه على اصطلاحهم إنْ هو إلا معانٍ مما فهمَهُ بعضُ الرواة! وقد يوجدُ بعضُ ألفاظٍ مفردة بقيتْ على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة، وتبيّنَ لي أنّ ما يسمونه في اصطلاحهم حديثاً (صحيحاً) إنما كانت صِحّتُه في نظر رواته، لا أنه صحيحٌ في ذاته، وأنّ ما يقال عنه (متفق عليه) ليس المراد أنّ البخاري ومسلم قد اتفقا على إخراجه، وليس من شروط الحديث الصحيح أنْ يكونَ مقطوعاً به في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان والسهو على الثقة”.

 

وعندما قام المسلمون بفتوح بلدان كانت لها مدنيات قديمة وأخضعوها لسلطانهم، طبّقوا عليها تلك الأقوالَ والأفعالَ التي حدثتْ بين العرب في صحراء الجزيرة على أقوام كانت لها عاداتٌ وثقافات ومدنيات مختلفة تمام الاختلاف عن عادات العرب وثقافتهم. فمن غير المنطقيّ أنْ يجري تطبيقُ تلك الأفعال والأقوال التي تعبّرُ عن موقف ذاتيّ وخصوصيّ ومباشر كما ذكرنا، على مشكلات معقدة تعقيدَ البيئات المختلفة التي دخلها المسلمون عنوةً من أهلها. ولعلّ الشيءَ المدهشَ في الموضوع، هو أنْ تجري محاربةُ كلّ نزعة تخرجُ من النطاق الضيّق لأصحاب مدرسة الحديث (مالك وأصحابه) الذين كانوا يعتمدون الحديثَ حتى وإنْ كان من الآحاد.

 

ويكشفُ التزمتُ في الاعتماد على الحديث في ذاته، عن مشكلة متجذرة في العقل العربيّ الذي لم يستطعْ أنْ يتحرّرَ، في تشريع القوانين، من الذهنية النصية والانتقال إلى التشريع الوضعيّ الذي يأخذُ بعين الاعتبار الواقع والتجربة والملاحظة والمنفعة في صوغ القوانين استناداً إلى قيم إنسانية عامة تتعلقُ بصون الحقوق الطبيعية للإنسان. ولذلك، فإنّ الفكرَ الإسلاميّ بجميع تياراته ومذاهبه، بحاجةٍ إلى تجديد يراعي المقتضيات العصرية للإنسان. فعمليةُ الانتقال إلى العصر الحديث تقتضي أنْ نفككَ بنيةً ثقافيةً ربضتْ على صدورنا مئات السنين، وخضعنا لها من دون أنْ تكونَ عندنا القدرةُ والإرادةُ على تغيير جهازنا “الفكريّ والعقليّ عندما تتطلبُ الشروطُ الموضوعيةُ ذلك، وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقلٍ ما تتواجدُ فيه عدّةُ حلول لمشكلة واحدة وذلك بهدف حلّ هذه المشكلة بفاعلية أكبر” بحسب مفهوم الصرامة العقلية لدى المفكر الأمريكيّ من أصول بولونية ملتون روكيش.

 

إنّ قراءةَ التراث الدينيّ، على وفق نسبية ما بعد الحداثة، لا يمكن أنْ تكون إلا قراءةً عُمْقِيّةً قادرةً على التحرّر من الأساليب النمطية لفهم الدين من قبل الجماعات التي تُقولبُ فكرَ أفرادها على وفق رؤية تعتقدُ أنّ الفكرَ الدينيّ أبعدُ شيء عن التطور والتغيير. وبالنسبة للثقافة العربية الإسلامية، فإنّ هذا التغييرَ هو عمليةٌ إجرائية على قدر كبير من الأهمية لأنه تغييرٌ عُمْقيّ وليس تغييراً أفقياً تنتقلُ فيه المفاهيم المقولَبة في فكر الجماعة انتقالاً موضعياً من مكان معين إلى مكان آخر . كما أنّ هذا التغيير يقوّضُ جميعَ الأوهام المتعلقة بفرضية عدم القدرة على تغيير الفهم الدينيّ وتغيير منظومته الفكرية التي تكونت عبر قرون من الزمن، وحظيت بموثوقية دينية رفيعة، أو على الأقل تمتّعتْ، من خلال دعم إجماع الجماعة، بما يسمّيه بول ڤاين: قوة الإثبات. فتمسّكُ أفرادِ الجماعةِ، المنتمين إلى دائرة إيديولوجيّة واحدة، بأساليبها في الفهم والتفكير، يغلقُ الدائرةَ على نفسها ويوقعُ الجماعةَ في ما أسميه: المغالطة الاستحواذية؛ بمعنى أنّ هذه الجماعة تستحوذُ على حقّ الجماعات الأخرى في التعبير عن تصوراتها وأفكارها في الاختلاف. ولذلك فإنّ الخروجَ من تلك الدائرة يتمثّلُ في لحظة اقتناع الجماعات المتصارعة بضرورة التوافق على تواصل جريء لاختراق تلك الدائرة المغلقة وضخّها بالخبرة والأفكار الجديدة وتحديث أساليبها في الحوار الثقافي لتجاوز محنة الانغلاق بروحٍ منفتحةٍ.

 

إنّ آليات فهم الدين وفهم مصادره الأساسية ينبغي أنْ تخضعَ لعملية تغيير جذرية في زمن ما بعد الحداثة الذي أوجدتْهُ العلاقاتُ الاقتصادية الجديدة وتطورُ التكنولوجيا المعاصرة وطرائق الاتصال العنكبوتية وأساليبها وتطورُ فلسفة العلم من الحتمية الطبيعيّة إلى النسبيّة. وعلى هذا الأساس، فإنّ العادات الثقافيةَ النمطيةَ التي اعتُمدَتْ في التشريعات القانونية وتكوين تصورات عن العالم والطبيعة والإنسان والتاريخ، أصبحت بلا جدوى وغيرَ مقنعةٍ ومفرّغةً من المنفعة في زمن ما بعد الحداثة، مما يضعُ التراثَ الدينيَّ كلَّه أمام امتحان عسيرٍ إما التجديد وإما الاندثار.

إقرأ أيضا