مهما كان العراقي بعيدا عن عالم الادب وفضاءاته الرحبة ليس بإمكانه ان يتجاهل هذه الشحنات الشاعرية الوجدانية الهائلة التي يتركها الشعر الشعبي العراقي في نفوس المتلقين، شعر يسير في واد وبقية الفنون الادبية في وادي آخر، ان الشعر الشعبي لامس وجدان ومشاعر المواطن العراقي من مختلف الشرائح وبدون حواجز او قواميس، ولذلك فان شعبيته تتزايد باستمرار.
ان جذور الشعر الشعبي في العراق لها امتدادات تاريخية قديمة جدا، لكن البدايات الملموسة والواضحة لهوية الشعر الشعبي العراقي تعود للقرن الثامن عشر حينما سيطر العثمانيون على مقدرات هذا البلد وضيقوا على الفلاحين، الجور والمعاناة كانت عاملا مهما دفعت تلك الشريحة الاجتماعية الى التنفيس عن نفسها من هون المعاناة بنظمها للشعر الشعبي، كان الفلاحون يتسامرون فيما بينهم بما يحفظون او ينسجون من اشعار. وخصوصا الالوان القصيرة التي يسهل حفظها على غرار الموال، المقطوعات وبقية الالوان الشعرية. اضافة طبعا الى دور الشعائر الحسينية في اثراء الحركة الشعرية الشعبية في العراق. ان العراقي نظر الى الشعر الشعبي اداة تترجم بمفرداته اليومية ما يعيشه من احاسيس ومشاعر انسانية عاشها خلال حقب زمنية مختلفة. لكن تلك الالفة بين عامة ابناء المجتمع وبين هذا اللون من الشعر لا تعني التجاوز على ضوابط ومعايير ذلك الشعر الشعبي، فالافق المفتوح في نظم الشعر الشعبي انتج مدارس شعرية بالوان واذواق مختلفة، على ان تكون لكل مدرسة شعرية معاييرها وضوابطها الخاصة بها، وذلك التنافس المشروع والمثير بين تلك المدارس عاد بالنفع عليها جميعا. لقد قفزت مدارس الشعر الشعبي العراقي قفزات نوعية مثيرة للأعجاب، التطور النوعي والكمي في منتج الشعر الشعبي ملموس وملحوظ ليس فقط لأهل الاختصاص، بل حتى بالنسبة لنا نحن الذين نتذوق ذلك النوع الانيق من الادب الذي يقطر احاسيسا ومشاعر، يكفي ان نقرأ المنتج الشعري المميز للرواد في النصف الاول من القرن العشرين، ثم الفورة الشعرية السبعينية التي تركت بصمتها في المشهد الادبي العراقي عموما والشعري خصوصا وليس انتهاءا بجيل من الشعراء المتأخرين الذين بشهادة قامات الشعر العراقية استحقوا ان ترفع لهم القبعة لانهم حملوا مشاعل التجديد. علينا ان نعترف ان هذا اللون من الادب العراقي فرض هيبته وسطوته بشكل جنوني في الشارع، المدارس الشعرية الشعبية في العراق ليس بذلك المستوى الرتيب والهزيل كما يصفها بعضهم، بل فيها من الصور الشعرية ما يثير الاعجاب. الشعر الشعبي العراقي يستحق مراجعة متأنية واهتماما نقديا غير مستعجل.