صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

قراءة في كتاب “الحاج ريكان، عرب الاهوار”

من المؤلفات التي كتبت على شرف الاهوار وسكانها والبيئة المحيطة بها، هو كتاب “الحاج ريكان، عرب الاهوار”، الذي انجز عام 1927، من تأليف “فلانين” والمقصود بفلانين هما: السيدة هيجكوك وزوجها الميجر هيجكوك الضابط البريطاني الذي خدم في مدينة العمارة فترة الاحتلال البريطاني للعراق، وفي اغلب الظن ان “فلانين” هو تثنية المفردة العربية “فلان” الشهيرة والمتداولة بين عرب الاهوار.

في مطلع الكتاب لا يخفي المؤلفان بأن الفضل في تأليف ذلك الكتاب يعود للخاتونه “جيرترود لوثيان بيل” حيث اقترحت عليهما تلك الفكرة، وكان مقررا ان تكتب مقدمة الكتاب لكن الاجل حان دون ذلك. عن الكتب الاخرى التي تتحدث عن الاهوار فإن المختلف في ذلك الكتاب انه بالإضافة الى الإلتقاطات التي شاهدها ووثقها المؤلف بنفسه، فإنه ايضا وثّق لكثير من تفاصيل حياة الاهوار وسكانها فترة الاحتلال البريطاني، وقبل ذلك في فترة الاحتلال العثماني للعراق، من خلال القصص التي رويت على لسان من عاشوها في مرحلة زمنية يندر بل يكاد ينعدم فيها التدوين عن بيئة الاهوار، خصوصا في القرن التاسع عشر والنصف الاول للقرن العشرين، ويمثل دور القاص والسارد لتلك الوقائع هو “الحاج ريكان” التاجر المتجوّل في تلك المناطق والذي يعرف جغرافيا وبيئة الاهوار بشكل ممتاز.

توصيفات شيّقة، تحليل بالطول والعرض عن تلك البيئة والمناطق القريبة منها، ولكن مما استوقفني في ذلك الكتاب محطة للمؤلف اثناء جولاته حول الاهوار، ففي قرية تقع في عمق الهور التقى عجوزا طاعنة في السن تدعى “حليمة”، تلك المرأة وحالما عرفت انه بريطاني الهوى قدمت له شيئا ملفوفا بكيس، فتح الكيس وشاهد كتابا متهرّئا، قلّب اوراقه القديمة فعرف انه للجنرال البريطاني “جورج كبيل” الذي قدم الى العراق عام 1824 لأغراض عسكرية بالتنسيق مع والي بغداد داود باشا. الاهوار لفتت نظر كبيل وترددت كثيرا في مدوناته اليومية، يستعرض صاحب الكتاب شيئا من توصيفات كبيل الملفتة جدا عن سكان الاهوار، لكن يستغرب عن وصول تلك النسخة الى هذه العجوز! يقلّب الكتاب المتهرئ ويشاهد فيه ما دوّن من ملاحظات بخط اليد، اثر ما قرأه من ملاحظات يعود مرة اخرى الى العجوز مستفسرا منها عن سر ذلك الكتاب؟! وبعد عدة محاولات باحت العجوز بما في جوفها، وقصت حكاية بمعايير الكثيرين تبدو اقرب للخيال منها الى الواقع، لكن لوعة العجوز عند السرد وتوصيف ما شاهدت وعانت جعلت من فلانين لا يتجاهل القصة بسهولة ويترك الفصل فيها الى قناعة القارئ، قصص من تلك الشاكلة لا يفترض ان يتعاطى معها من منظار الخرافة فحسب، بل ربما هي سر غامض من اسرار بيئة الاهوار كما هو حال الكثير من التفاصيل التي لازالت بعيدة عن المعالجات المعرفية الهادفة.

تذكر العجوز انه في العشرينات او الثلاثينات من القرن التاسع عشر كان يتردد على عشيرتها شخص بريطاني يعتبر صديقا للعشيرة، وفي احد الايام جاءهم على عادته، لكن في ذلك اليوم قد جن جنون اهلها على حد تعبير العجوز، التي تعتقد بأن الارواح الشريرة والطنطل قد استحكم فيهم، خصوصا وانهم يسكنون قرب اشان “جزيرة صغيرة” مهجور، يعرف الجميع انه “مسكون” اي تعيش فيه الارواح الشريرة والطنطل. اهلها الذين فقدوا صوابهم في تلك اللحظة جرّدوا صديقهم من ملابسه وربطوه الى صواري احدى السفن، وقد يقتلونه في ايّة لحظة، قررت حليمة فجر اليوم الثاني تحريره، فحررته ولكن التهمتها النار وفقدت بصرها منذ ذلك اليوم، لقد انقذته من الموت ولكنها اصبحت ضحيته، كانت تنتظر عودته في يوم من الايام ولكنه لم يعد، بقي الكتاب بصحبتها وفيه ايضا ما اضيف من ملاحظات بخط يد ذلك الشخص المجهول. العجوز حليمة احتفظت بالكتاب وكأنه امانة في رقبتها لا تعلم لمن تعطيه، كانت بانتظار قدوم احدا من ابناء جلدة ذلك البريطاني فترجع اليه تلك الامانة.

ختام كتاب “الحاج ريكان” يتحدث عن النهاية الدراماتيكية لبطل ذلك الكتاب الحاج ريكان، من رافق المؤلف في الكثير من جولاته، كان المرشد والدليل، والوجه الذي يبدد مخاوف سكان الاهوار من الغرباء القادمين اليها، لقد قتل الحاج ريكان برصاص قوة اتت للسيطرة على احدى القرى المتهمة بالمشاغبة وقطع الطرق ولكنه انسلّ فاخبر معارفه بما يحاك حولهم، نجح في ايصال الرسالة فانقذ سكان تلك القرية لكنه دفع حياته ثمنا لذلك. تلك الوقفة يعتبرها المؤلف ختاما نموذجيا لكثير من الاحداث التي تحصل هناك، وللمصير الذي قد يواجهه السكان في ايّة لحظة تحت ذرائع مختلفة.

 

إقرأ أيضا