صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

قراءة في سديم أسرار الجنوب عراقي

    لعل أية مقاربة  بالأدوات  والأساليب النقدية التقليدية، لرواية “قصر الضابط الإنكليزي”، للكاتب عبد الأمير الركابي”1″،ستكون غير ذات جدوى، أو – بقليل من التفاؤل – غير فعالة كفاية في استبطان وتفكيك مضامين نصها و تقنيات سرديتها

 

 

لعل أية مقاربة  بالأدوات  والأساليب النقدية التقليدية، لرواية “قصر الضابط الإنكليزي”، للكاتب عبد الأمير الركابي”1″،ستكون غير ذات جدوى، أو – بقليل من التفاؤل – غير فعالة كفاية في استبطان وتفكيك مضامين نصها و تقنيات سرديتها. فهذه الرواية تتصدى لموضوع شديد التعقيد والغموض والغرائبية بأدوات وأساليب نثرية جديدة إلى هذا المدى أو ذاك على الرواية العراقية التي دأبت – كشقيقاتها العربيات – على تكرار واستنساخ النمط الأوروبي السائد للسرد الروائي، ولهذا ستكون قراءتي هذه مجرد محايثة استعراضية لأجوائها ومضامينها،و هي قراءةتجريبية قد لا تخلو من التبسيط المقصود،  الذي  يمليههذا النص الروائي، و قد لا يخلو من الدلالة تسمية الركابي لكتابه “نص روائي” وليس “رواية”؛ أمرٌ فطنَ له محقاًالشاعر عباس بيضون مؤخرا  في قراءته للكتاب”2” وخرج منه باستنتاجات بعضها قريب من تلك التي نحاولها.

 

يبدأ الزمن الروائي الحدثي مع الصفحات الأولى للنص مع وصول طلائع القوات الاستعمارية البريطانية إلى الجنوب العراقي و انكفاء القوات التركية العثمانية التي كانت تحتل العراق بعد هزيمتها في معركة “الشعيبة”بضواحي البصرة في نيسان 1915 ( وكانت المليشيات العراقية المؤلفة من المسلمين الشيعة حصرا، قد قاتلت في معركة الشعبية، و لأول مرة إلى جانب القوات العثمانية التي دأبت على اضطهاد جمهور هذه المليشيات، وسيرد في الرواية ذكر أحد قادة هذه المليشيات وهو رجل الدين والشاعر محمد سعيد الحبوبي الذي توفي في مدينة الناصرية خلال انسحابه وقواته بعد تلك المعركة )،وصعود القوات الغازية نحو بغداد صعودا بطيئا ومريرا وسط مقاومة ضارية من المقاتلين الجنوبيين العرب العراقيين في مناطق الأهوار، وعبر مسار زمني روائي، ومخطط متداخل  ليبلغ هذا الزمن الروائي الحدثي نقطة توقفه التقريبية أو الحكائية، مع دخول قوات الغزو الأميركية و وحلفائها بغداد وسيطرتها عليها في 9 نيسان 2003.

 

الزمن الروائي الحدثي، الذي رسمنا خطه “السطحي” قبل قليل، لا علاقة له بالزمن الحقيقي  الذي يستبطنه المتن الروائي، والذي يدور بشكل حلزوني صاعد ودائر حول نفسه في آن واحد، أي أنه دائر  حول الماضي العراقي الأقدم، انطلاقا من  زمن البدايات حيث النبي إبراهيم في أور الكلدانية منظورا إليه ومفَكَرا به ضمن محاولة ” استيعائه” روحية و كونية من قبل المؤلف. هذا الأخير، يتبادل عدة أدوار وصفات لعل من أهمها،إضافة الى شخصية المؤلف كاتب النص الأولي، الشخصية الرواية المشاركة في الأحداث والراوي شبه المحايد – سرديا – والمعلِّل والمنظِّر والمتأمل والمفلسف لأحدث الماضي والراهن وومآلاتهالمستقبلية ضمن رؤية فلسفية متكاملة، عرضها الكاتب في مؤلفة الضخم ( أرضوتوبيا العراق وانقلاب التايخ )”3″ ، أعني شخصية جميل علوان، و أيضا عبر شخصية العراقي المغترب والعائد إلى العراق بعد الغزو الأميركي في نيسان” أيضا!” سنة 2003 والمقصود هنا هادي ذبيان أحد أبطال المواجهة المسلحة القصيرة والعاصفة بين فصيل شيوعي عراقي مسلح و قوات الحكم الانقلابيببغداد في أهوار الجنوب بين سنتي 1967 و 1968.

 

غير أن الرواية لا تسير وفق مخطط زمني مستقيم ونامٍ باستمرار وبساطة سطحية، بل أنه مسار متداخل وشديد التعقيد، و بنية الرواية النصية  أقرب إلى مجموعة قصص منفصلة عن بعضها حدثيا ومن حيث الشخصيات الرئيسة، ولكنها موحدة من حيث البنية المضمونية والجو الروائي العام. إن كيان الرواية العنقودي والذي قد يذكر البعض بالسردية “الألفليلية “حيث القصص تتناسل من بعضها البعض، منفصلة و متواشجة مع بعضها البعض، أمرٌ يؤكده اشتغال المؤلف مطولا على حيثية القصص المتحولة إلى ملاحم وأساطير تم تصعيدها من الحدثي اليومي البسيط إلى الغرائبي والخارق إذا نُظِرَ إليه من مستوى رؤيوي مختلف. يبلغ هذا المغزى التأليفي ذروته في محاولة جميل علوان بناء هيكل للقصص الجنوب عراقية على شكل ناعور مطروح بشكل أفقي أو الدولاب العجيب الذي أطلق عليه دولاب المائة باب وباب.

 

أما شخصيات الرواية العديدة  فلا نجد من بينها بطلا رئيسا واحدا وبعبارة أخرى قد نعتبر أن بطلها الرئيس الوحيد هو الزمكان الأهواري حيث الزمان الحلزوني الرؤياوي والجغرافيا المائية المندمجة فيه تجعلنا بإزاء سديم خاص وغامض يعج بالأسرار والقصص الأولى. ولنؤشر هنا أن مفردة قصص هي الأكثر استعمالا في المتن الروائي مقصودا بها القصص – سماها  عباس بيضون الملاحم و قد لا يكون مبالغا – الرئيسة للشخصيات الرئيسة فيها.

 

تضم الطبقة الأولى – بالمعنى التنظيمي النقدي للكلمة وليس بمعنى الأهمية المضمونية- من الشخصيات كلا من : العلامة الآثاري  باقر والذي قد يحيل اسمه الى العلامة العراقي الراحل، الجهبذ، طه باقر و تلميذه، جميل علوان – الراوي غير المعلن لبعض الأحداث والمحاول تأسيس فهم فلسفي لها – وقلت غير المعلن أو غير الرسمي لأن أحداث الرواية لا تُسْرَدُ على لسانه بل على لسان الضمير الغائب، ورغم إننا نقع على أحداث روائية واقعية حدثت له أو لأحد أفراد عائلته وذكرهم بالاسم كما في قصة جنون حصان الشيخ القتيل يونس وهو الجد المباشر للمؤلف من جهة الأب،غير أن المؤلف يعود فيظهر في الصفحات الأخيرة من النص الروائي بشخصية المسلح اليساري الذي شارك في الانتفاضة المسلحة في أهوار الجنوب في ستينات القرن الماضي، و العائد من مغتربهبعد سنوات قليلة على احتلال العراق سنة 2003، هادي ذبيان، إضافة إلى العديد من الشخصيات المختلفة الأهمية السردية المعاصرة.

 

أما الطبقة الثانية من الشخصيات -التي لا تقل أهمية ورئيسية  بالمعنيين الآنفين – فمنها: حسن الرميض قائد الفلاحين الثوار المقاومين للغزاة البريطانيين في الأهوار، والضابط البريطاني المقدم ستيفن المكلف بمطاردة حسن الرميض و مسلحيه. ويمكن اعتبار شخصية هذا الضابط المتمرد على قيادته العسكرية والمتحول إلى صديق حميم  لطريده العراقي أكثر شخصيات الرواية التباسا وإثارة للتساؤلات قياسا الى القالب الروائي المألوف والتقليدي للأجنبي المحاول الاندماج في البيئات العربية كما في نماذج الروايات  المصرية أو السودانية أو النجدية  في النماذج الشهيرة المشابهة شكلاً. وما يجعل الضابط ستيفن البريطاني غير مألوف وغير تقليدي هو تحوله من غريب يحاول الاندماج في الوسط الغريب الجديد إلى مشارك لا يقل ” عراقية” عن سائر الشخصيات المحلية حتى قد يشعر القارئ  بعدم ملائمة كلمة المحلية هنا، فستيفن يتحول إلى قطعة صميمية وعضوية من نسيج ما سميناه سديم الأسرار الجنوب عراقي منطلقا ومسارا ومآلا حين يخر هذا الضابط  صريعا والفالة ( رمح ثلاثي السِّنان لصيد السمك تتخذ سلاحا أبيض مايزال مستخدما منذ العصر السومري وحتى  اليوم)  مغروسة في صدره، وناصر مجلي البحار العجيب وغريب الأطوار وابنه  و مزبان، المسلح المتمرد والمدافع عن النساء المظلومات، وصابر العمى الحارس الليلي والمنادي على أفلام دار السينما لاحقا، وابنته فضيلة، ومرغريت زوجة الضابط البريطاني ستيفن وحفيدها الأميركي هربرت القادم مع دبابات إبراهام سنة 2003،  إضافة إلى شخصيات أخرى مقاربة لهذه  من حيث وزنها وأهميتها المضمونية والسردية.

 

أما بصدد المضمون، فالرواية ككل، مشغولة بمحورين أو همين رئيسين متداخلين: الأول، هو البدايات الحضارية الإنسانية التي يرى الكاتب أن مكانها الحقيقي هو جغرافية الرواية الجنوب عراقية وزمانها السومري وما قبله وما بعده وصولا إلى الانقطاع الحضاري الراهن وآفاق هذه البدايات حاضرا. والثاني، هو قراءة و محاولة تفسير الغرائبية والعجائبية في السردية الحكائية لهذه البقعة من الأرض منذ الغزو البريطاني في بداية القرن العشرين وحتى الغزو الاميركي سنة 2003، منظورا إلى هاذين المحورين  وفق رؤية فلسفلية خاصة بالكاتب وغير مطروقة مسبقا وقد فصلها في كتابه الذي أشرنا إليه آنفا ” أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ”.

 

 

هنا يمكن أن نسجل الملاحظتين التاليتين:

 

قد لا يخلو أي مسعى روائي من هذا القبيل الذي تصدى للقيام به الركابي من نزعة الأدلجة–أولا، بالمعنى الإيجابي للأيديولوجيا بوصفها محاولة تنظيم فكرية و ثانيا، السلبي، أي بوصفها وعيا زائفا للذات بعبارة ماركس الشهيرة- ولكن مسعاه نجح إلى حد بعيد من الوقوع في تقديم نص مؤدلج تماما وكانت أدواته السردية والتقنية الكتابية خير معين له في ذلك.

 

الملاحظة الثانية تتعلق بثنائية الغرائبي والواقعي كما عهدناها في نماذج روائية شبيه لعل أشهرها ما سمي ” الواقعية السحرية” التي أرسى قواعدها غابرييل ماركيز. ولكننا هنا أمام نموذج مختلف وفريد تماما ففي واقعية ماركيز السحرية يجري تصعيد الواقع الحياتي البسيط و شديد الواقعية إلى سماء الغرائبية والعجائبية بطريقة قسرية يقوم بها خيال المؤلف أما مع الركابي فالأمر مختلف لأن الواقع المعاش والبسيط والمتحول الى قصص وحكايات هو الغرائبي والعجائبي بطبيعته. هنا تبرز صعوبة استيعاب هذا العمل وتفهمه من قبل غير العراقيين و ربما  من قبل غير الجنوب عراقيين إلى درجة ما. فما يرويه ويسجله الراوي أو “الرواة ” في كتاب الركابي هو في أغلبه حوادث وقصص حدثت فعلا و أشخاصها بشر من لحم ودم وأسماء معروفة في المنطقة أضاف لهم الكاتب أشخاص آخرين من نسج خياله لضرورات فنية فحكاية المقاتل الجنوبي جنيدي الذي شارك في معركة ” الشعبية” في حرب التصدي للغزو البريطاني والذي قاتل بعد موته كما تسجل الأهزوجة النسائية الجنوبية ( حي ميت تقتل يا جنيدي)، وهزم الموت حتى بعد أن وقع – هذا الموت –فعلا، واعتبر جنيدي ميتا و حربة السيرجنت البريطاني في صدره، و لكنه تمكن من قتل طاعنه، هي حادثة واقعية لشخص معروف، وقصة حصان الشيخ يونس الذي جنَّ بعد مقتل فارسه وانتهى – الحصان – منتحرا هي قصة حقيقية أخرى ، أما الشخصية الملحمية بحق مزيان حامي النساء المستضعفات والصيادين الفقراء بوجه الثري الذي يستغلهم بفظاظة، والذي ينتهي إلى طريد الجميع والمتمرد على الجميع بمن فيهم عشيرته التي تضطر لـ “كسر عصاه” أي خلعه من عضوية العشيرة ثم يلقى مصيرا مأساويا ودمويا في النهاية، هو شخص معروف في المنطقة أيضا بل صديق شخصي – حسب معلوماتي – لجد المؤلف من جهة أمه،  وهنا يبرز السؤال: كيف فلسف الركابي هذه القصص وغيرها كثير،وعرضها روائيا؟ وهل نجح في مسعاه لإقناع قارئه غير العراقي بواقعيةِ الغرائبيةِ الجنوبيةِ؟

 

وقفة لمحية أخيرة نود أن نقفها عند الفصل الرابع والأخير في الرواية. ففي هذا الفصل كثَّف الركابي فكرته الفلسفية وبثها في النص بطريقة أقرب الى المباشرة التسجيلية : حيث العراق والعراقيون اليوم أمام منعرج تاريخي مهم وخطير ينهون به فترة الانقطاع الحضاري التي طالت لعدة قرون، محددا شكل وجوهر و مضمون هذه البداية الجديدة بكونه فعلا تغييريا  تاريخيا إبراهيميا جديدا و مفتوحا على العالم. بكلمات أخرى: إنه تاريخ يقترح على العالم حلا يوتوبيا له تمظهراته الفلسفية والسياسية والمجتمعية التي يرى الكاتب أنها جديدة تماما وكونية الآفاقو قمينة بإنقاذ العراق و العالم.

 

 

هوامش :

 

1.قصر الضابط الأنكليزي . عبد الأمير الركابي . عن دار ” مصر مرتضى للكتاب – بغداد.

 

2.السفير البيروتية 4 تشرين الأول 2016.

 

  1. أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ – من الإبراهيمية إلى ظهور المهدي : هكذا يرد التاريخ العراقي على التحدي الأميركي ) دار الانتشار العربية – ط1 2008- بيروت.

 

 

*كاتب عراقي

إقرأ أيضا