(الملايين التي يعلكها دولاب نار، من أنا حتى أرد النار عنها والدوار؟)
خليل حاوي
1
الكتابة الشعرية المضادة عن الحرب مثلما هي مغايرة على الدوام، فهي متقاطعة مع الكتابة الدعائية التعبوية، هذا ما تقوله بداهة المعنى، والكتابة عن الحرب أيضاً هي: (الهروب من معسكر الحرب إلى السلام الدائم والولادة اللاتنتهي) كما يقول فرانس كافكا، كتابة تجعل الحياة تنمو من جديد وتبدد الحيرة الملازمة للمعنى الشعري، كتابة لا تشيخ لأنها تجعل دلالة الأمل على قيد الحياة، ومجموعة الشاعر جمال جمعة الشعرية (مصافحة في الظلام/ رسائل إلى أخي) ليست ذاتية محضة على الرغم من أنها مشوبة بالقلق والشك، بالرثاء والانتظار والمحبة أيضاً، نصوص تضيف للقارئ شقاء جديد يتصل بالمعنى ويهادن الخوف، إذ يجد القارئ نفسه مكرهاً على خوض حربه التي اختارته، حربه التي لا تذوب في النسيان وتسيل على صفحات التأريخ والذاكرة معاً.
الهواجس المريبة لاتفتأ تفتك بالشاعر ونصوصه، فهل بإمكان الحلم أن يقترح في المدى اللانهائي واقعاً بديلاً مثلما أقترحه علينا الشاعرالعراقي جمال جمعة عبر حالة التلاحم مع ماهية الحلم من منظور مغاير؟ إذ تبدو هذه النصوص/ الرسائل وكأنها تعبر بدقة متناهية عن كوارث الحرب الأمر الذي ينبغي أن يفهم منه، أن هذه الرسائل الشعرية مصممة على المواجهة خصوصاً حين تستمد إشاراتها الروحية من حاجة المرسل إلى المرسل اليه دونما وسيط وبالتالي فالشاعر هنا يقوم بعملية إقصاء موضوعة الحرب في حواره الروحي مع الآخر، بالمعنى الآنف تغدو الكتابة الشعرية ممارسة شديدة الحرية بفضل تقبلها لمثل هكذا حوارات أو تأملات ينفتح فيها الشاعر على عالم الخيال من خلال الجملة الشعرية الموجزة أو الالتقاطة اللفظية الصارمة . في هذه المجموعة الشعرية المكتوبة أثناء حرب الخليج الثانية/ 1991 والتي توزعت النصوص ـ الرسائل فيها، بالترتيب ادناه، وكأنها تريد أن تتقبل شراكة الشاعر مع الكثير من التفاصيل الحياتية الأخرى المتعلقة في صياغة الحوار أو القول الشعري وهذا التسلسل: (1ـ14/ 14ـ24/ 25ـ38) قد يبدو لي مقصوداً من قبل الشاعر لتصاعد النبرة الشعرية من جهة ولطبيعة الحالة النفسية المحتدمة التي كُتبت بها هذه الرسائل تبعاً لتوترات الحرب وتداعياتها الدراماتيكية، فحين يفرض الواقع حضوره المأساوي بهذا الشكل المفزع يفرض الحلم نفسه بصورة تلقائية محاولاً أن يمارس لعبة التماثل الروحي لمضامين تلك الرسائل من خلال الجمل الشعرية المكثفة المنسوجة على مختلف المستويات النفسية والفكرية، اللغوية والجمالية التي تطالعنا في المقطع الأول من رسالته الأولى: (هكذا يا أخي أراك متأرجحاً بين الخيام/ يداك في جيوبك وعيناك تحدقان في الفراغ وأنت تفكر بي رائحاً وغادياً تماماً مثلما أفعل أنا هنا) فحالة التذكر تحيط بالشاعر من كل الجهات، ابتداءً بتفاصيل الطفولة وصولاً إلى شكل العلاقة، مع الاخر، المنبثقة من طبيعة الاواصر الحميمة التي انعكست بهذا الأسلوب المتصل مع الطبيعة الفنية للكتابة الشعرية، لذلك تغدو دائرتا الحب (المعنى) والخوف (الدلالة) لديه هما المركز الذي تتحرك فيه هواجس الشاعر باتجاه الآخر وهذا التراكم من الحميمية الدافئة يكاد ينطبق على معايير العلاقات الإنسانية بشكل عام.
هذا ما يصوره لنا الشاعر في رسالته الرابعة: (وهل تحلم بالسماء الزرقاء/ بالنوم على السطوح/ بالمطر يوقظك قبيل الفجر/ بيد أمك وهي تقول: إستيقظ يا شريف، الدنيا ظهر) فينبوع العاطفة لا ينضب وألم التذكر لا يتوقف، كما إن الهواجس المريبة لا تفتأ تفتك بذات الشاعر، كما أسلفت، فيحولها بمهارته اللغوية إلى معانٍ شعرية مثقلة بالدلالات . أحياناً تتسلل خيوط من اليأس إلى دلالة النص أو فكرته وسبلنا النقدية كثيرة جداً لتفهم مثل هذه الحالة كما أن مصادر اليأس لا تحتاج الى دليل نقدي فهي صادرة من افرازات الحروب أو اسقاطاتها المتمثلة بالتوتر والقلق، الخوف والموت أو الأسر.
لذلك تبقى المسافة ما بين اليأس ـ الأمــل والتي تبرز المشاعر المتأرجحة في ميزان هذه الحرب اللاعادلة، ضيقةً جداً لنتأمل ما كتبه الشاعر في رسالته الخامسة: (لماذا لا أراك إلا محدقاً في نجوم الصحراء متذكراً وجهي؟ لم لا أراني إلا محدقاً في قوس القزح لأراك؟ أراك مرتجفاً من البرد في ليل الصحراء)، إن حالة التأرجح هذه قد تؤدي الى نوع من التأزم النفسي تنجم عنها اسقاطات لا حصر لها تؤدي إلى غياب حالة التحمل التي تدفع الشاعر لممارسة حرفة التأمل حين تتحول الحرب الى ما يشبه الصخرة التي يرزح تحت وطأتها القاسية الأمل الوحيد الذي يترقبه الشاعر والمتمثل بالسؤال الآتي: متى تنتهي هذه الحرب؟ وفي حالة انتهاء الحرب ما الذي سيكون عليه الحال، لنرى ما صوره الشاعر في هذا المقطع بنهاية الحرب تحديداً: (الملوك ربحوا تيجانهم/ والأمريكان ربحوا نفطهم/ الروس شبعوا لحماً/ الصينيون ربطات عنق إضافية/ واليهود ربحوا أراضي أخرى/ أنا وأنت فقط يا أخي الخاســـران في هذه الحرب)، وعلى الرغم من النبرة الكوميدية السوداء كان الشاعر موفقاً إلى حد كبير في هذا التوصيف المفجع لنتائج الحرب التي نقل اجواءها إلينا من خلال نصوصه (رسائله) ذات البناء الفكري/ الجمالي فقد كان الشاعر، أيضاً، حاسماً في تقديم تصوراته الدقيقة عن النهايات المتوقعة لمثل هكذا حروب، لذلك نراه يثيرانتباهنا لموضوع الخسارة، بشكل مختلف ومضاد، كتعبير شديد الكثافة تنطوي عليه دلالات كثيرة قد تبدو في نظر الشاعر أكثر من فجيعة الحرب وكأنها شروط مجزية يجب توثيقها أو تقديمها لتلبي النزعة التدميرية لطبيعة الحرب بوصفها فعلآً همجياً محضاً.
حالة الغياب سرعان ما تشتد ملامحها فتغدو مختزلة لكل الخصائص الجوهرية لموضوعة الانتظار الذي يحاول الشاعر التخلص من تكاليفه أو تشظياته المتنوعة والانطلاق إلى الجهة الأخرى، من المعنى، ليتمكن من تذكر العلاقات الحميمية الموغلة عميقاً في الذاكرة، ولأن قصائد المجموعة كثيراً ما يصدر عنها هذا الوصف الدقيق للحظات الشوق والتذكر والانفعالات المتوالية التي تنتاب الشاعر بين حين وآخر وخلال هذا الأفق التي تتحرك فيه القصائد ينقلنا الشاعر لمواجهة الحقائق الموضوعية بصورة فنية جمالية في معظم التقاطاته/ هواجسه التي أفضَتْ لتصعيد هذا الحوار.
لنقرأ ما كتبه الشاعر في الرسالتين الثامنة والتاسعة: (وسأرجوك أن تنساني لحظة واحدة لأستطيع النوم من دون ندم) (حملــي ثقيل يا أخــي ولسانــي عائم على الفراغ/ ما الذي ستفعلــه الكلمات للموتـــى؟) فالرؤية المتفحصة في نصوص المجموعة لا تخضع لضرورة التواتر الآنــي لدموية الحرب بل تبقى مفتوحة بكل إرهاصاتها واحتمالاتها وغرائبيتها التي تنعكس بدورها لا على طبيعة تعامل الشاعر مع نتائجها فحسب بل على اسقاطات الواقع اليومي بأدق تفاصيله وحيثياته وبعده الإنساني على وجه الخصوص، ورغم كل هذه المسارات أو التوجسات تنبجس من روح الشاعر القدرة على إبقاء جميع الصلات الجينية التي تربطه بالمستقبل وإعتقاده الجازم الذي أوصله الى الحافات الحادة لليقين بإنجلاء هذا الكابوس (الحرب) إلى واقع مغاير اقترحه الشاعر كبديل (الحلم) لذلك بقيت القصيدة (الرسالة) هي الرئة الوحيدة التي يتنفس عبرها هواء الحرية في أتون هذا الواقع الحجري الخانق، فمواصلة الاعتقاد أو التمني لدى الشاعر بوجود نافذة ما للتواصل مع الآخر هي التي استكملت حالة الحلم لديه بهذه الصورة التي نستطيع تلمسها في الرسالة الثانية عشر: (في الظلام أمــد يدي لظلامــك علهّــا تعثر على يديــك وأنت تمــدها إلــي من ظلامــك البعيـد باتجاه ظــلامي) رسائــله هذه، كما تبدو للقارئ، تخاطب الضمير الفردي من عدة محاور، وهي باختصار القاسم المشترك لكل ما استحوذ على ذهن الشاعر من توقعات مريبة ومخاوف وقلق رغم بعده عن الأحداث، جغرافياً فقط، ولكنه قريباً منها، إنسانياً، مما أوصله الى أن يطلق صرخته، بصيغة سؤال، التي تنطوي على نبرة وجودية كما هو واضح في الرسالة الخامسة عشر: (أينـك أيها الله لترى كل هذه الأشلاء الطازجة وهــي تغلــي فوق رمالك مفتوحة الأفواه فيما الذباب يطّن حول صرخاتها المؤودة وهي في الطريق اليك) فالتداخل الذاتي ـ الإنساني الكثيف لا يمكن إغفاله بدعوى من همجية الحرب فقد أبرزت لنا نصوصه إنطباعات وإشارات رمزية مغايرة وجديدة تختلف عن كل النصوص التي تعاملت مع الحرب بصورة دعائية وتعبوية مثل إبراز الجوانب البطولية للجندي أو تبني الشعارات الزائفة المسماة بالحرب المقدسة وغيرها من المسميات، فعلينا أن نعترف بصراحة مطلقة بان البطولات في الحرب تبقى زائفة حتي وإن كانت حرب تحرير، فليس هنالك من منتصر في الحرب، الخاسر الوحيد هو الإنسان في كل حروب هذا العصر ليس بوصفه حطبها فقط بل إستسلاماً لشروطها المجزية.
ومهما كانت النتيجة التي ستؤول إليها هذه الحرب أو تلك فإن الأمر الأكيد هو أنه لا أحد سيخرج منها منتصراً فالضرر سيلحق بالجميع بكل أولئك الذي أكدوا على ضرورتها أو نفوا وجود هذه الضرورة، لنرى ما آلت إليه الحال من فظائع الحروب برسالته الرابعة عشر: (سيذهب أبي الى عنابر المستشفيات باحثاً عن أشلائك/ وسترابط أمي بيديها المرتجفتين أمام المحطات باحثة في وجوه الجنود العائدين عن بيريتك/ فيما ستذهب الأخوات الى العرافات ليطالعن في خطوط أيديهن آثارك) أي لعبة سمجة تتعامل بها الحرب مع البشر؟ هكذا وبمنتهى الفجاجة تجعل البشر أسرى هواجسهم وقلقلهم ودموعهم التي وإن جفت فلربما سيستعيرون عيوناً أخرى للبكاء وكأن ببيت الشاعر عباس بن الاحنف حاضراً بصورةٍ أبديةٍ حين قال: (نزفَ البكاءُ دموعَ عينكَ فأستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ/ من ذا يُعيرك عَيْنهُ تبكي بها أرايت عيناً للبكا تعارُ) لقد حملت نصوص الشاعر من المعنى ما جعله يتخطى طبيعة الازمة التي تقصدت الحرب إثارتها، وهذا أمر طبيعي للتعاطي الشعري مع هكذا موضوعات حيث إستخراج الحرب من مدلولاتها وترك للقارئ فسحة تأملية للقراءة والتفسير، لقد فرضت علينا الكلمات والألفاظ والعبارات الشعرية المكثفة والدلالات الموحية حالة إستثنائية في القراءة تتجاوز حدود القراءة النقدية نفسها إلى نوع من الاثارة أو التأمل في دلالة المفردة الشعرية وإيقاعها المثقل بالالم كما هو واضح في الرسالة الثامنة والعشرين: (البارحة أطلقوا النار عليـــك فأصابونــــي).
يتبع…