يستمر المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي في عمله الدؤوب المتواصل منذ أكثر من عقدين من الزمن، لتحديث الفكر الإسلامي وربطه بقضايا العصر وعصرنته خلال سلسلة كتب قضايا إسلامية معاصرة وفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد.
صدر من آثار عبدالجبار الرفاعي حتى اليوم ٦٥ مجلداً، في ٤٢ عنواناً لكتاب. أما المجلة الفصلية قضايا اسلامية معاصرة، التي مضى عليها عشرون عاماً، صدر منها حتى اليوم 62 عدداً.
وما صدر عن مركز دراسات فلسفة الدين الذي أسسه ببغداد، أكثر من ٢٠٠ عنوان كتاب، في عدة سلاسل، فقط في سلسلة (كتاب قضايا اسلامية معاصرة) اكثر من ١٠٠ كتاب.
مجلة قضايا إسلامية معاصرة من أهم المجلات المختصة بالفكر الديني في العالم الإسلامي برمته، فقد كرّمها المعهد البابوي في الڤاتيكان بروما، بإصدار كتابه السنوي عام ٢٠١٢ لمختارات من نصوصها بالإيطالية والانجليزية والفرنسية، بوصفها المجلة الأولى في الدراسات الدينية بالعربية في ربع القرن الأخير.
هناك مجموعة من المزايا لهذه الفصلية قلما تجمعها أية فصلية فكرية إسلامية أخرى وأهمها إن المجلة هي مجلة بلاحدود، إذ إنها تجاوزت الحدود المذهبية، وحتى الحدود الاسلامية الخاصة، لتهتم بدراسة الدين وصفه أعمق وأغنى تجليات الروح البشرية، كما تخطت هذه الدورية الحدود الجغرافية العربية، إذ ليس كل المسلمين عرباً، ولا أغلبيتهم، بل أغلبية المسلمين من غير العرب، ولهذا لم تهمل مجلة قضايا إسلامية معاصرة آراء مفكرين مسلمين من غير العرب، من أمثال: داريوش شايغان ومحمد مجتهد شبستري ومصطفي ملكيان من ايران، وفضل الرحمن من باكستان.. وغيرهم.
كما إنها تخطت الدائرة الإسلامية، ذلك انها تعالج قضايا دينية عامة مثل: الإيمان، التجربة الدينية، وفهم النص الديني.. وغيرها مما لا تختص بها ديانة محددة. وهناك من غير المسلمين من قارب الكثير من قضايا تتصل بالإسلام كدين من الأديان، والنصوص الإسلامية، كنص ديني، وهنا يمكن توظيف مقولات فلاسفة ومفكرين غير مسلمين، من أمثال كيركگورد، أنتوني ستورم، وسي ستيفن إيفانز.. إلخ.
من هنا نرى إن مجلة قضايا إسلامية معاصرة تحولت إلى مدرسة فكرية، تعالج كل ما هو يتصل بفهم النص الديني، والمصالحة بين المسلم وعصره. وهي بذلك لا تني في دفاعها عن الايمان والتدين الرحماني الانساني، بلغة اليوم، وتتوسل في دفاعها وتبريرها وتبيينها لمهمة الدين الأصيلة في حياة الانسان، بحشد المفاهيم والمناهج الجديدة في علوم الانسان.
إن مروراً عابراً على قضايا تناولتها المجلة خلال عقدين من الزمن يُظهر لنا مدى حرص عبد الجبار الرفاعي على اقتحام إشكاليات راهنة في التفكير الديني، لم تغامر مجلة اسلامية عربية أخرى بالمجازفة بفتح نوافذها، كما أثارت مجلته هذه أسئلة عميقة،لم يشأ أحد بالأمس أن يفكّر فيها.
ظل الرفاعي مسكوناً بأسئلته، التي لا يولد فيها سؤال حقيقي إلاّ وتتوالد منه باستمرار أسئلة جديدة. الرفاعي يفتش عن مقاربات لفلاسفة دين ولاهوتيين ومتكلمين وفقهاء، تتناول هذه الأسئلة، في سياق فلسفة الدين ونتائج العلوم والمعارف الجديدة، في مجال علوم: التأويل، والنفس، والاجتماع، والانثربولوجيا، وفلسفة العلم..وغيرها.
إنه بدأ بمنهج التعامل مع القرآن، ومقاصد الشريعة، وفلسفة الفقه، وعلم الكلام الجديد، والتراث والحداثة، والعيش سوياً في فضاء التنوع والاختلاف، والتسامح ومنابع اللاتسامح، والإيمان الوجودي، وأرست سفينته أخيراً في مرفأ (الهرمنيوطيقا والمناهج الحديثة في تفسير النصوص الدينية). وما زالت قضايا إسلامية معاصرة تعدنا بتناول مشكلات: لغة الدين، والأخلاق والدين، ومشكلة الشرور.. وكل ما يتصل بدراسات فلسفة الدين والإلهيات الجديدة.
في المحطة الأخيرة أي الهرمنيوطيقا توقفت سفينة قضايا إسلامية معاصرة لمدة ثلاثة أعوام. إذ منذ بداية 2013 حتى الآن يشكل الهرمنيوطيقا والمناهج الحديثة في تفسير النصوص الدينية عنواناً للمجلة.
ومن وراء هذا العنوان والموضوع، يفتش الرفاعي عن مخرج لـ(إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين)، وإظهار أن الفهم إنما هو ظاهرة بشرية تتصل بوجود الإنسان، وأفق انتظاره وأحكامه المسبقة، في هذا الضوء ينبغي أن تخضع عملية الفهم لمصالح الإنسان.
وبتعبير آخر يعيش عبد الجبار قلقاً معرفياً ومجتمعياً ووجودياً، يدفعه لبذل كل الجهد لاكتشاف جماليات الدين، وآفاقه الرحمانية الانسانية. إنه يقصد تطهير الدين من الفهم المتوحش لشرائح من معتنقيه، إن عبر التنبيه إلى أن فهم الدين ليس حكراً على جماعة محددة، خاصة، إذا كانت هذه الجماعة تتكون من الذين لا يملكون الثقافة الدينية التقليدية، وأما في مواجهة التقليديين المتزمتين، إذ يحاول الرفاعي لفت أنظارهم إلى حقيقة تعدد الفهم، وإلى العوامل الدخيلة في الفهم، وأن هناك متغيرات كثيرة تجعل من العسير التغلب عليها في عملية تفسير النصوص الدينية. وعليه فلا مناص من القبول بتعددية الفهم، كما هو التقليد الراسخ في عصور ازدهار التفكير الديني في الاسلام، واتساع الاجتهاد في الفقه وعلم الكلام والتفسير وغير ذلك من علوم الدين، ونشأة المذاهب الفقهية، والفرق الكلامية.
أصدر الرفاعي العدد الأخير من مجلته مؤخراً، وهو العدد الرابع في موضوع (الهرمنيوطيقا والمناهج الجديدة في تفسير النصوص الدينية – 4). في مقدمة العدد تحدث حسن ناظم عن (تأويلية الفهم)، وهو يحاول الكشف عن الصبغة الإنسانية للفهم، حيث أن الفهم يصبح في نهاية المطاف مكوناً وجودياً؛ أي محدداً لبنية وجودنا في العالم.
ويلي هذا المقال، حوار مطول مع المفكر السوري طيب تيزني تحت عنوان (الهرمنيوطيقا تكشف عن الذاتية التأويلية)، أو مدى تدخل الذات البشرية في معالجة الموضوعات التي تواجهها. ويرى تيزيني أن القراءة في النص القرآني إنما يعني البدء بإنتاج حالة ذهنية تتعلق بالحقيقة والرغبة والتمني والحذر والمطامح والمطامع والخوف مع الرغبة في الدفء.
ويفتتح عبد المجيد الشرفي باب الدراسات في المجلة، بـ(مدخل لمقاربة حديثة لمفهوم التوحيد). متسائلاً هل التوحيد الإسلامي هو التوحيد اليهودي المسيحي نفسه؟ فإن كثيراً من المسلمين يرفضون اعتبار إله اليهود العرقي، أو ثالث الثلاثة إله المسيحيين.كما أن كثيراً من المسيحيين يعتبرون أن الله باعتباره إلهاً خاصاً بالإسلام، هو مختلف عن إله الكتاب المقدس. يحاول الشرفي تقديم فكرة موحدة للتوحيد تبتني على أن جوهر التوحيد متحد عند جميع الأديان، لأن عقيدة التوحيد متجذرة في أعماق كل إنسان.
ويقارب الزواوي بغورة موضوع (التأويل المنهجي)،كما يتطرق وجيه قانصو إلى (رهانات المعنى السياسي عبر النص الديني)، ليُظهر كيف يتم استخدام النص الديني في المجال السياسي. وتأتي مقالة علي مبروك في الاتجاه نفسه ليرصد مسار (الإسلام السياسي من شمولية الإسلام إلى فكرة الحاكمية الإلهية)، التي نظّر ابن تيمية من القدماء، وأبو الأعلى المودودي، وتبعاً له سيد قطب في القرن العشرين.
وقدم عبد الله بريمي دراسة في فكر غادامير تحت عنوان (اللغة نموذج لبلوغ الوعي الهرمنيوطيقي)، مركّزاً على مقولتين رئيسيتين لغادامير، وهما عبارة عن أن الفهم كله تأويل، وأن التأويل كله لساني.
وللباحث المغربي مصطفى الغرافي مقالة تحت عنوان (قراءة النص الديني التأويل بين مطالب العقل وضوابط النقل)، ويجيب العياشي ادراوي في مقالته ” الفعل التأويلي والإنتاج المعرفي” عن سؤال العلاقة بين الفعل التأويلي وبين البناء المعرفي.
وهناك مقالة هامة لفيلسوف الدين شلاير ماخر عن (التثقيف للدين)، ترجمها عن الألمانية: أسامة الشحماني، وهي الخطاب الثالث في كتابه الذي تنشره المجلة تباعاً، والذي يصنفه الخبراء بوصفه النص الأول المؤسس لفلسفة الدين في العصر الحديث، وتقوم المجلة بنشره مترجماً للمرة الأولى من لغته الأم. يواصل شلايرماخر فيه نقده لدخول العقل في مجال الدين. ويصف المترجم هذا الكتاب بقوله: (يعد كتاب الفيلسوف الألماني شلايرماخر، الذي ألَّفه عام 1799 تحت عنوان: “عن الدين: حوارات مع محتقريه من المثقفين”. من الأعمال الكلاسيكية المهمة في اللاهوت، ويتشكل من خمسة خطابات، جعلها شلايرماخر محصورة بإعادة هيبة الدين وكرامته، بوصفه نظاماً فكرياً وأخلاقياً، ليس محصوراً بعامة الناس وإنما هو لكل المجتمع، وأوله طبقة المتعلمين والنخب الثقافية).
ويتضمن القسم النقدي الأخير في المجلة (أفكار للمناقشة) ملفاً حول ملا صدرا الشيرازي، واتهامه بالانتحال، كتبه حسن اسلامي، ودافع أكبر ثبوت عن ملا صدرا، نافياً عنه الانتحال.
كما يتضمن العدد تعريفاً بكتاب (الايمان والتجربة الدينية)، إعداد وتحرير: عبد الجبار الرفاعي، وهو الجزء الثاني من: (موسوعة فلسفة الدين)، التي بدأ الرفاعي اصدارها مطلع العام الماضي، وهو يعدنا بأنها ستقع في عشرة مجلدات، تبحث الموضوعات الكلية في فلسفة الدين، مثل: (تمهيد لدراسة فلسفة الدين. الإيمان والتجربة الدينية. علم الكلام الجديد. الهرمنيوطيقا وتفسير النصوص الدينية. لغة الدين. التعددية الدينية. الدين والأخلاق. الوحي. المعرفة الدينية. مشكلة الشر).
د. مجيد مرادي: باحث وشاعر ايراني. جامعة القديس يوسف في بيروت.