وسط صمت دبق وتواطؤ مبتل بما تبقى من أصداء فضائح الهزيمة المنسوجة على منوال المكائد، مرت زيارة الفيلسوف الفرنسي الصهيوني برنارد ليفي لكردستان العراق دون تعليق، وكأن الزائر سائح عادي جاء للتزحلق على أضلاع حصاروست.
وقفة برنارد ليفي وسط حشد من البيشمركة خلف أحد المتاريس مطلا على أنقاض الموصل تحيل الى وقفة زبينغيو بريجنسكي خلف متاريس باكستان ضياء الحق مطلا على أفغانستان نجيب الله المدعوم من الدب السوفيتي ليرسم صورة متكاملة عن شلال الدم الذي سينهمر من جبال كابول نحو أنفاق تورابورا وكهوف قندهار. فبرنارد ليفي هو الآخر كان يتطلع الى خرائب الموصل ليرسم خارطة جديدة لاقليم كردستان محددة بالدم والجماجم وأشلاء العراقيين من العرب والكرد والتركمان، فهو حيثما يحل، يحل معه الخراب، وتحل معه الصراعات الاثنية والطائفية، ويحل معه تقسيم البلدان وشرذمتها.
برنارد ليفي هو ذاته الذي سحب الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي من أذنيه ليقحمه في الحرب على ليبيا، وهكذا فعل مع حلف الناتو. لم يهدأ له بال إلا بعد ان أحال ليبيا الى ركام. وبرنارد ليفي أحد سماسرة الحرب على العراق وعلى اليمن وعلى الصومال. وقف الى جانب الثائرين ضد نظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، وبعد هروب بن علي، أفرغ الثورة من محتواها وسلم مفاتيح تونس للمتطرفين الذين كانوا حتى تلك اللحظة يتفرجون على الأحداث من كوة في لندن أو باريس. وتسلل بين صفوف المحتجين المصريين في ميدان القاهرة، ومن هناك راح يخاطب العالم “الحر” عبر الفضائيات عن دوره في إشعال الحرائق في الحقل المصري، متوعدا بنقلها الى حقول عربية أخرى. هل ثمة مصادفة أن يتسلم الاخوان المسلمون مقاليد الحكم في مصر بعد الاطاحة بنظام حسني مبارك؟ إنه السيناريو التونسي يتكرر هنا من جديد.
“أنا صهيوني وقلبي يكون حيثما تكون إسرائيل”، هكذا يصرخ صاحب مقولة “الطريق الى تل أبيب يبدأ من بغداد”. كاهن الكولونيالية الجديدة وحاخام الفلسفة المضللة التي ترفع مقولاتها عن حرية الآخر وديمقراطيته على أسنة الفجائع، لم يتورع عن تأبط التلمود حين “يصنع مخالب للملائكة مثلما يصنع مخالب للنصوص”، على عكس الفيلسوف باروخ سبينوزا.
في كتابه المثقفون المزيفون يجرّد الكاتب الفرنسي باسكال يونيفاس برنارد ليفي من صفة الفيلسوف ويصفه بأنه يمارس الكذب، وكأن الكذب أصبح فنا ثامنا، أما صحيفة الغارديان فتعنون تقريرا لها عنه بـ”فيلسوف يروي لنا حكاية اتسمت بالوقاحة”.
ليفي يعتمر القلنسوة بدل القبعة وهو يسير على خطى مفكري الحقبة الاستعمارية، أولئك الذين حددوا عبء الإنسان الأبيض في مهمة تحضير الشعوب، ومثلما كان الأديب والمفكر البريطاني روديارد كليبينغ الحائز على جائزة نوبل عام 1907 حامل لواء بريطانيا حين استعمرت الهند، فان ليفي حمل لواء السنوسية بعد أن أطاح بلواء ليبيا الذي رفعه القذافي احتجاجا على اتفاقيات كامب ديفيد بين السادات وإسرائيل، والفرق بين الرجلين، هو ان كليبينغ يعترف في منعطف استعماري لالتقاط الأنفاس، في رسالة وجهها الى معارض عربي آنذاك “كنت أظن ان عظمة بريطانيا أقوى من إرادة المهاتما غاندي، لم أكن أعرف أن صوته السلمي الهادئ يمكن أن يحجب الشمس عن إمبراطوريتنا، غرور القوة أعمى بصيرتي”، في حين ان برنارد ليفي لا يرى قوة على الأرض كقوة إسرائيل التي يجب ان تتضاءل عندها قوى الأمم والشعوب، دون ان يستوقفه أي منعطف كولونيالي.
لم يُخفِ ليفي أهداف زيارته الحقيقية لاقليم كردستان العراق، فهو يؤكد في مؤتمر صحفي عقده في أربيل على ضرورة عقد مؤتمر عالمي في المدينة للعمل على “تعريف هذه المنطقة – إقليم كردستان – بالعالم، ومع انها ليست دولة إلا أنه يمكن اتخاذ مثل هذا المؤتمر فرصة لتعريفها كدولة”. ولم يُخفِ بعض القادة الكرد طربهم بسماع كلمات ليفي، مع أنها في حقيقتها دعوة لأن يغفو الاقليم في أحضان الثعلب الإسرائيلي الذي سيجهز عليه بمخالبه وأنيابه فور أن يفرغ من ضحاياه الآخرين.
آثار ليفي الدموية التي خلفها في جنوب السودان وفي دارفور وليبيا واليمن وتونس ومصر والبوسنة والهرسك وجورجيا، لن تسلم منها جبال وسهول كردستان، وساعتها لن ينفع ندم القائلين بالتحالف مع الشيطان من أجل تحقيق حلم الدولة الكردية، لأنها ستكون مجرد دويلة مسخ، طالما كانت ولادتها على يد عراب الحرائق برنارد ليفي.