ربما لم ترتبط الاهوار في حياة شاعر ولم تنعكس ملامحها ومفرداتها وجميع ما فيها كما انعكست وارتبطت في حياة وشعر مظفر النواب، ولعل جل انتاجه الغزير من الشعر الشعبي انتج واستقام في ظلال تلك البيئة. من عائلة بغدادية عاشت تحولات اقتصادية حادة من الغنى الى العوز جاء مظفر النواب قادما الى ضفاف الاهوار، زارها مرات عديدة وعاش هناك لفترة من الزمن في مناطق عديدة من الاهوار الشرقية و الاهوار، تشبّع من حكاياها الشعبية ومع ما يمتلك من خبرة استثنائية في كتابة الشعر تزوّد بقاموس من المفردات الشعبية وصنع لنفسه من هناك مجدا في الشعر الشعبي مضافا الى مجده في كتابة الشعر الفصيح.
لقد ترددت الاهوار وبيئتها في مناسبات كثيرة باشعار النواب، ولعله ابرز من كتبوا عن ذلك المكان، وهذا ما تؤكده عشرات القصائد التي كتبها مظفر النواب بعد زيارته الاولى للاهوار في عام 1956. في تلك الزيارة تعرّف مظفر النواب لاول مرة على عالم الاهوار حينما لبّى دعوة صديق له يسكن في اهوار الكحلاء. شاهد الحياة هناك وسمع الغناء واسترق السمع لحديث الناس ولهجاتهم وما فيها من تنغيمة جذبته بشكل ملفت. لقد لامست طراوة الطبيعة هواجس النواب وانتزعت منها معلقاته الشهيرة في الشعر الشعبي على غرار “للريل وحمد”، “البنفسج”، “حن وانا احن”، “مضايف هيل” وغيرها من قصائده الشعبية الشهيرة، التي تغنّى بها مشاهير الفن العراقي.
وذلك ما يؤكده مظفر النواب بنفسه، ففي احدى لقاءاته الصحفية وحينما سئل عن الاسباب التي جعلته يكتب الشعر الشعبي ارجع ذلك لجملة من الاسباب من اهمها:” كنت أسمع فقط الشعر الموجود في بغداد او المغنين الذين نسمعهم في الاذاعة العراقية، الى ان رحت في عام 1955 او 1956 الى أهوار العمارة (احدى مدن جنوب العراق الرئيسية) والتقيت هناك بمغنين هم غرير وجويسم وسيد فالح، وقد ذهلت فعلاً بغنائهم. وتكشف لي عالم مهمل، لكنه مليء بالجمال ويمكن ان يسد حاجة كبيرة في امكانيات الخلق لدي، كما لو وجدت طينة معجونة جيداً ومخمرة جيداً لتصنع منها تمثالاً، عالم مختمر، بما فيه من الطين والماء والقصب وأصوات الجواميس، كنت أمام عجينة حية تماماً تنتظر احداً ممن لديه فهم للمعاصرة الشعرية الحديثة ليتنبه إليها وليشتغل على المادة الخام الهائلة التي لا تنضب منابعها. كما كتبت عن مناطق الهور من قصائد… ولكن، حتى الآن أشعر أنني لم أعمل شيئاً نهائياً، هذا العالم المختمر يكفي كمنبع لأعمال ابداعية هائلة، وأنا لا أعتقد أن السلطة في العراق تخاف من الهور فقط، لكونه مكاناً للتمردات بل هناك خوف من الجمالية الموجودة في الهور، خوف من الجميل يشعر به القبيح لأنه يفضحه. لذا فإن هناك اتجاهاً لإنهاء وتدمير هذا المنبع، ومن ثم لإنهاء الشعر الذي يكتب عنه”. جريدة الحياة – العدد 11783 والصادر بتاريخ 27 ايار 1995.
وفي لقاء صحفي آخر يؤكد ذلك وبوضوح اكبر، حيث يجيب مظفر النواب على سؤال حول بدايات ارتباطه بالشعر الشعبي قائلا:
“فترة 1956 كانت دورة ضباط احتياط، ساقونا إلي مدينة السعدية، ديالى، الدورة فيها كثير من الشخصيات التي لها دور في الحركة الأدبية والفنية في العراق مثل صلاح خالص، يوسف العاني، وكذلك بعض قادة حزب البعث علي صالح السعدي، الخشالي، في تلك الفترة دعينا من قبل احد طلاب الدورة، طبيب في احد الأعياد إلى العمارة كان معي صلاح – الذي اعدم – يوسف العاني، إبراهيم كبة، أقام لنا والده سهرة على نهر الكحلاء حضرها اشهر مغني الهور ” كرير، جوسيم، سيد فالح ” لأول مرة التقي بغناء من النوع . لأول مرة اسمع هذا الغناء، وهو غير الذي يغنى بالإذاعة، كان كل شيء ساحرا وآسرا أدى إلى التصاقي بعامية منطقة العمارة، كل شيء كان منتشيا بطبيعة الغناء، لأول مرة اسمع “المحمداوي ” من جوسيم، “كرير” شخصية آسرة، … له مجموعة من الدفوف، يبدأ يغني “وينحط” حتى يصل صوته عمق الهور، ينقل لك الهور وأنت هنا، صوته أشبه بصوت (بول روبسن) عميق جدا، “جويسم” صوته رقيق جدا ناعم يطوح بالمحمداوي هو وسيد فالح، ومن أصواتهم وغنائهم أحسست بالغنى الموجود في عالم الهور وأبعاده والحزن الذي فيه والشجن والمعاناة والفرح أيضا، كانت عندي رغبة شديدة ان أشاهد هذا العالم، بدأ عندي نوع من النفرة من شعر عامية المدن، لان شعر عامية المدن شعر ساخر ناقد ليس فيه كثير من الصور، صادف في تلك الفترة تعرفي على صديق من تلك المنطقة “عبد الرحمان شمسي” كان يلقب بلبل الجامعة وهو من قبيلة الشموس التي تقطن في العمارة اهوار ألعماره، يملك صوتا جميلا هائلا، كان يغني في حفلات الجامعة، طلبت منه ان نذهب إلى هناك سوية حيث أهله، سحرني العالم الموجود والقصب والطيور واللهجة الجنوبية بتنوعها”. مجلة المدى العراقية – العدد العاشر – الصادر في دمشق بتاريخ الاول من تموز عام 1995.
مظفر النواب ذلك الشاعر والعازف على العود الذي يعشق الموسيقى وجد في تلك المنطقة جملة من المغريات التي يحتاجها شاعر مرهف على شاكلته قادر على تطويع اللغة والمعنى والمفردات البسيطة وتوظيفها بشكل استثنائي، لقد ساهم في اخراج العديد من الجماليات هناك واعطاها طابعا انسانيا رائعا يمنحها قدرة على التسويق، وهو من العراقيين القلائل الذين نظروا الى الوجه المشرق في جغرافيا الاهوار.
لكن لمظفر النواب مواعيد اخرى مع الاهوار في ظروف اكثر قساوة مما سبق، ترتبط بما يكتبه في ظل المتغيرات السياسية التي تحصل في العراق، سواء ما يتعلق بالصراع بين الفلاحين والاقطاعيين وما تلى ذلك من تداعيات، او ما يتعلق بمرحلة ما بعد هروبه من سجن الحلة عام 1967 حيث تنقّل متخفيا بين مدن العراق، ثم الى لاذ في قصبات الاهوار قرابة العام للفترة 1968- 1969 متنقلا بين منطقة واخرى في الاهوار الوسطى. تلك الفترة الزمنية هي ذات الفترة التي انتهج الشيوعيون فيها طريق حراكهم المسلح، انطلاقا من مناطق مختلفة في الاهوار مثل هور الغموكة التابع لقضاء الشطرة في محافظة ذي قار، و اهوار قضاء الجبايش، وهور ابو زرك في ناحية الاصلاح.
ولهذا فهناك صفحة مفعمة بالتمرد والعنف الثوري في المنتج الشعري لمظفر النواب حينما يتعلق الامر بموضوع الاهوار، جعلت كثيرا من شعره عن تلك المنطقة مرتبط بهاجس التمرد على الواقع والسلطة قبل اي شيء آخر.
عام 1959 صدر قرار حكومي بارجاع بعض الاقطاعيين الى حيث كانوا قبل الثورة، وهذا ما اغاظ الفلاحين كثيرا وزاد من تذمرهم وخوفهم، احتجوا على القرار بشدة وحصلت ملابسات في هذا الموضوع ادّت الى مقتل “صاحب ملا خصاف” او صويحب وهو احد اشهر المتمردين على القرار وكان ينشط في ضواحي مدينة الكحلاء، قتل صويحب في تشرين الثاني عام 1959 في “هور المعيّل” التابع لمدينة الكحلاء، مظفر النواب لم يشأ تفويت المشهد حيث وثّقه في قصيدة “مضايف هيل” التي يقول في بعض مقاطعها:
“مَيلن.. لا تنكَطن كحل فوكَ الدم
مَيلن وردة الخزّامه تنكَط سم
جرح صويحب بعطابه ما يلتم
لا تفرح ابدمنه لا يلگطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي .
***
أحاه.. شوسع جرحك ما يسده الثار
يصويحب.. وحكَ الدم ودمك حار
من بعدك ، مناجل غيظ ايحصدن نار
شيل بيارغ الدم فوكَ يلساعي
صويحب من يموت المنجل يداعي .
***
صدور الغيظ اينفثن نار على المشرگ
وچفوف الفِلح ، لمة شمس تحرگ
ها .. يلحكم .. هاي اشرايع اتمزلگ
والخنزير يزلگ بيها يالراعي
وصويحب يموت ومنجله يداعي”
ذات الحال ينطبق على قصيدة “حسن الشموس”، حيث تفوح منها رائحة الثأر والتمرد واثبات الذات، إذ جاء في بعض مقاطعها:
“چن تينة ربيع اتهز ثمرها ابگلب البساتين چن ماي الحصو الابيض … ايهلهل روج ويزهلل واشيل اترابك اعله الراس لبيوت الگصب … والغاگه والغرنوگ … وانهلهل هله وليدي … هله وليدي هله وليدي … الضوة بيك الچباشه الظلمه والمنزل
لون توگف دول يسحگها شعب الهور چي ضيمه چبير وگلبه شايل سل
اطرن هورها وكلساع اگول تثور . . . .
اگولن ما يصح گبرك ولا حطو عليه ناطور
اگولن عله ساعة ويلهج الشاجور . . .”
والشموس عشيرة عراقية من عشائر محافظة ميسان تعيش على ضفاف الاهوار. ولا يختلف ما تقدم عما جاء في قصيدة “حجام البريس” بل ربما فيها جرعات ثأرية انتقامية اكبر بكثير مما سبق:
“وزحف حدر الكًصب والطين
مامش للرصاص اخبار.. مشتاكًين
يمكن عدو ياحجام
يمكن واوي من واوية الحكام
ياحجام ! اسمع كًصبة ..كًصبة
وبالك تعوف الكًصب
ليل الغموكًة حزام
صاح النوب صاح الهور كل الهور صاح وياه ياهور الغموكًة وكام”
هكذا لاحقت مفردات الهور معظم المنتج الادبي الشعبي لمظفر النواب بما في ذلك معلقته “الريل وحمد” حيث جاء في احد ابياتها فيها:
“حمد تفكه بثنايا الهور والبيرغ ركد نصه
حمد والعار طر الهور ما مش زلم وتكصه”.
ناهيك عن ان معظم مفردات تلك القصيدة وغيرها من قصائد النواب قد اقتبست من هناك. ومن هناك ايضا تكاملت ونضجت معالم الشخصية الشعرية والشاعرية عند مظفر النواب.
سكان الاهوار ومن يستوطنون ضفافها يتداولون كثيرا اشعار النواب لا لانها تمثل اسلوبهم وطريقتهم في صناعة الشعر فهي مختلفة تماما وربما لا يستسيغون مجاراتها، لكنهم يحبونها لانها تتحدث بنفس ملحمي عنهم ولا تتعالى عن الاهتمام بابسطهم وتخليده في قصيدة او مقطع شعري، هذا الفرد البسيط المتواضع من امثال صويحب في “مضايف هيل” او سفان في “سفان ازيرج” او لعيبي في “جد ازيرج” وكذلك حسن في “حسن الشموس” وسعود في “عشاير سعود” ليس الا نموذج يرى فيه كل منهم نفسه مخلدا في تلك النصوص الشعرية المطواعة على الفهم والقريبة من النفوس.
يكاد يكون مظفر النواب في نظرته المعجبة الى مناطق الاهوار كما هو الحال مع ولفريد ثيسيغر حينما شاهد الاهوار لاول مرة عام 1951 تعلّق بها كثيرا، تمازج معها ووجد فيها ما لم يجده الاخرون، فهؤلاء الاخرين كلما نظروا الى تلك البيئة لم يجدوا فيها ما يستحق الاهتمام، تنفر نفوسهم ويفضلون الابتعاد، لكن مظفر النواب كان يشاهد هناك اشياءا اخرى اكثر جاذبية لانه ينظر بعين مختلفة، كان يشعر باحاسيس عجيبة لانه يمتلك احساسا فريد. مظفر النواب ملفت جدا في تجربته الشعرية مع الاهوار، بالوانها المختلفة ووجوها العديدة، انها تجربة ومغامرة تستحق الاهتمام وتسليط الضوء عليها ليس فقط باعتبارها منتجا ادبيا فنيا جماليا فحسب بل ايضا لانها ارتبطت باسماء وشخوص ومناطق واحداث سياسية مهمة جدا في تاريخ المنطقة والعراق بشكل عام.
مظفر وثورات آل ازيرج
في آب من عام 1952 اندلعت انتفاضة آل ازيرج القبيلة الزبيدية المعروفة والتي تسكن في مدينة الميمونة والقرى والاهوار الملاصقة لها، التمرد لم يكن من اجل كرسي ولا زعامة بل من اجل الخلاص من سياط الاقطاع وظلمه المرير! اناس يكدحون من الصباح حتى المساء ولايحظون بما يستحقون من المحاصيل الزراعية. لقد كانت ثورة بدوافع غير قبلية وان كانت قد سميت باسم قبيلة آل ازيرج وذلك لان معظم سكان مدينة الميمونة وما حولها هم من تلك القبيلة. الاقطاعيون كانوا يبيعون الدغار الواحد “وهو وحدة قياس للمحاصيل الزراعية اكثر بقليل من الطن الواحد” للحكومة باربعين دينارا ويعطون الفلاح عوضه خمسة دنانير تخصم منها الجباية، قهوة المضيف، اجرة الكاتب، ومضافات اخرى! وهذه كانت خطيئة كبرى في تاريخ الحكم الملكي الذي كان يسير في خطين متناقضين يصعب جدا الجمع بينهما، فالنظام الملكي نظام مدني بامتياز في المدينة وكان يؤسس لدولة حديثة وبنية تحتية ممتازة بالنسبة للعراق، ولكنه في المناطق الريفية يسير في اتجاه آخر مختلف تماما عن الاول لانه يؤسس للقبيلة العشائرية وبشكلها الاقطاعي الذي يسحق الفلاح والطبقات العاملة وهذا كان احد الاسباب المهمة وراء هروب الناس الى المدينة في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق. انطلاقا من تلك المعطيات وما سبقها جاءت انتفاضة آل ازيرج، وبعد مواجهات مع الاقطاعيين دخلت الاجهزة الحكومية لتقف الى جانب الشيوخ الاقطاعيين حينها مالت الكفة لهم مما اجبر الثوار الى اللجوء الى مناق الاهوار الملاصقة لمدينة الميمونة وهي الجزء الشمالي من الاهوار الوسطى، لتكون الاهوار مرة اخرى ملاذا للثائرين. تلك الوقائع دفعت النواب لتخليد تلك الاحداث من خلال جملة من القصائد منها قصيدة “غيلان أزيرج” وغيلان هذا هو سفّان في منطقة آل ازيرج كان متعاطفا مع الثوار آنذاك. القصيدة جاءت على لسان صبيّة تعشق احد الّذين التجأوا الى الاهوار وتنتظر سفينة غيلان كي تسال عن حبيبها، من هذه الزاوية اراد مظفر تخليد الموقف:
“زلمنه تخوض مي تشرين حدر البردى تتنطّر
زلمنه اتحز ظلام الليل تشتل ذبحة الخنجر
زلمنه الماتهاب الذبح تضحك ساعة المنحر
يساكًي الشمس من عينك ابعز الشمس حب اخضر
لون حلت نسمة ليل شعرك تنشك العنبر
أحط الحجل للثوار كمره زغيره على المعبر
وأشيم أترف النجمات فوك شراعكم تسهر
سفن غيلان ازيرج تنحر الذارى
لون ودت سفنهم يمك أخباري
وحك عيني احط الروح عل السارى
وأقل الحسره بشليلك واشوفك ازغر اسراري
وأفك الشبكه من ابعيد أغله شراع
أشبكك شبكة النسمات للنعناع
ليش الروح يامدلول يمك تنشره وتتباع
زلمنه اتخوض مي تشرين الأول
حدر البردي تتنطّر زلمنه تغني والخنجر يشك الروح
لون كل الكصب غنه بحنيني لشوفتك يا أسمر
يسيل الكصب سل اصفر واظن المأى يتمرمر
واظن حته النجم يطفى زراكه ولا بعد يسهر
سفن غيلان ازيرج تضوى بالعبره
ياغيلان كلبي شيصبره
اخذ كل الزلم وأملى السفن ياعيني الله وياك
وفد جلمه عشك حلوه اظن الها مجان هناك
ذبها بسكتة الغبار ياغيلان
خلها اتعانك السكان ياغيلان
شارة نصر للسفان ياغيلان
يامعود دخيل امروتك السمره
دخيل الشوك احب جفك
احب ايديك وشوف شفاف لو جمره”
وجاء لمظفر في ذات السياق من قصيدة اخرى بعنوان “جد ازيرج” كتبت في عام 1961:
“يا جد الكَصب والخير والعنبر
يا جدي ، اللي كَلبك طير يحب الماي والبيدر
اخذها ، لهورك ..
الضميت بيه جروحنه من سنين
ضمها لصدرك التعبان .. وِخض جفوفها من الطين”
مضافا الى ما تقدم هناك الكثير من النصوص الشعرية التي كتبها الشاعر مظفر النواب إثر تداعيات التمرد الذي قام به آل ازيرج والعشائر المتحالفة معها ضد الاقطاعيين وبقاياهم.