صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

كيف ولماذا هزمنا امام صدام حسين ؟ (5)

  مهما جربت أجهزة قمع صدام حسين و”ناظم كزار”، او قبلها أجهزة عبدالسلام عارف وعبدالرحمن…

 

مهما جربت أجهزة قمع صدام حسين و”ناظم كزار”، او قبلها أجهزة عبدالسلام عارف وعبدالرحمن عارف بعده، او حتى أجهزة عبدالكريم قاسم القمعية الضعيفة للغاية، القضاء على الحركة الشعبية العراقية، فانها لن تستطيع فعل الشيء الكثير على هذا الصعيد، لقد بذل الإنكليز ونظام نوري السعيد قبل ذلك جهدهم، على امل انجاز هذه المهمة من دون جدوى، الى ان انتهوا لعكس ما املوا او تصوروا، فالفترة بين 1921/1958، كانت بالأحرى فترة عزلة مطلقة للنظام الذي أقيم على يدهم ضمن ماابتكروه من مخطط للاجهاز على “مجتمع اللادولة” الذي نهض بوجههم نهضته المسلحة عام 1920، فقد ظلوا محكومين رغم ذلك، وبالرغم منهم، لاستخدام أسلحة لم يكن امامهم من بد من استعمالها ضمن عملية هجومهم التصفوي ضد مجتمع “اللادولة المشاعي” المستمر في التشكل صعدا، في الوقت الذي افضى ماقد لجاؤوا له من الأسلحة المجتمعية النحويرية هو نفسه، على تقريب نهايتهم الأكيدة، وحيثما حاولوا حسب تصورهم، تفكيك المجتمع الأسفل، وتغيير نمط العلاقات التي تنتظم وجوده التاريخي، فقد استحثوا بالمقابل ردة فعل اعنف، حتى من ثورة 1920، وان تبدلت اشكالها وصيغها، وطرائق تمظهرها.

 

فمخطط الهجوم عبر الدولة المركبة من اعلى/ “الحديثة” المقامة منذ 1921 / بكل بنيتها الفوقية وأجهزتها البيروقراطية المستحدثة، والقمعية المساندة لقوانين التحوير الاجتماعي جوهر عملية الاستعما ر، استحث ردة فعل معاكسة تجاوزت كل توقع، وإزاء خطر الاقتلاع والخلخلة البنيوية، تصاعدت الى اعلى مستوى عملية الرفض والمقاومة، واتسعت لتشمل الكيان كله، خالقة “وطنية من اسفل” تقابل وتضاد “الوطنية من اعلى”، المركبة والمفتعلة، الممثلة بالدولة المركزية، وبعد ما حفزته ثورة 1920 من تجلي الوطنية العامة، قافزة خطوات على المستوى الرمزي والشعوري بالتشكل الوطني خطوات مهمة، خارج نطاق مجتمع اللادولة الجنوبي السائر نحو التشكل الوطني الحديث منذ القرن السابع عشر، مع ظهور أولى الاتحادات القبلية (اتحاد قبائل المنتفك)، مستعينا بما متوفر من اشكال تكريس وطنية ولو “مستعارة”، لكن المتاحة والقابلة للاستخدام آنيا، ضمن مجرى الصراع، مع ترتيبات الحضور الغربي النموذجي والاستعماري، بحيث تم استعمال منجز الغرب الحديث والمعاصر ممثلة بتيارات الحداثة (الماركسية والقومية والليبرالية الشعبوية) بالضد من الغرب ووسائل تحويرة المناقضة كليا لجوهر الوطنية اللادولوية العراقية.

 

وكل هذا حدث في وقت لم تكن فيه الكينونة العراقية، والخاصيات التاريخية المميزة للكيان العراقي، قد افصحت بعد عن ذاتيتها، وهي النمط او النموذج المستعصي تاريخيا على الاستيعاء، واستمر في العصر الحديث وحتى اليوم ضمن “ما لايمكن افتكاره” باعتباره نمطا اجتماعيا وكيانا حضاريا ارفع من كل ماعرفه او تعرف عليه الانسان في التاريخ، بما في ذلك الانسان الأوروبي الحديث وعلم اجتماعه، وماديته التاريخية، مع النمط المجتمعي الكياني المواكب للنهضة الحديثة في اوربا، واعلى اشكاله نمط “الدولة الامه” أي الكيانات المتكتله والمنصهرة في أمم، فمع ان الاستعمار الإنكليزي هو الاذكى، والأكثر حساسية من بين أنواع الاستعمار الحديث إزاء خاصسات الشعوب ومميزاتها/ لدرجة انه اسهم كتجربة في ظهور علم الانثروبولوجيا/ الا انه لم يستطع اجتياز نطاق الاستجابة الحسية إزاء خاصيات العراق الخارجة عن نطاق استيعابه كليا، فاتخذ من الإجراءات والمواقف والخطط التي وجدها ملائمة للحالة، ومنطبقة عليها، بناء لتقديرات حسية مباشرة، من دون ان يدرك منطوياتها ولا آلياتها.

 

وسيظل هذا التفارق بين الحالة ووعيها، يرافق سيرورة العراق ووجوده الحديث سواء في نظرة وتعامل المحيط الإقليمي معه، او حين يتعلق الامر بنظرته لذاته، والمسالتان الجوهرتيتان الباقيتان بلاحل على هذا الصعيد الى اليوم على خطورتهما هما: خصوصية ورفعة وتعقيد بنية الكيان المجتمعي “الامبراكوني العراقي” وامتناعه على الادراك المتداول بما خص الكيانات والمجتمعات والنظم أولا، مع تعذر تصور أهدافه السائر نحوها، او الافاق القابلة للاتفاق مع صيرورته المستقبلية، وبالذات احتمال ان يكون هذا الكيان متجاوزا، او هو صيغة متفلته من ربقة النموذج الغربي أصلا، وانها منفتحة على الأفق الحضاري اللاحق على نموذج الغرب، والمفترض به الحلول محله كونيا. أي المصادقة على فكرة ان الغرب ليس خط النهاية، ولا هو الأفق الأخير في الصيرورة الحضارية الإنسانية، وبما ان الامر كذلك، فمن البديهي عندها ان لاننتظر من الأفكار الحديثة المستعارة حين تبنيها عراقيا، ان تكون قد لعبت دورا في مجال تبيان الخاصيات “الامبراكونية”، وهي انما استعارت المفاهيم الغربية والنموذج الكياني المجتمعي الغربي، ولم تجد نفسها مجبرة على ذلك، او مضطرة له، لانها لم تكن القوة المحركة في السيرورة التاريخية، بقدر ماكانت ملحقة بها، في حين ظل المحرك الفعلي والاساس منوطا بالبنية “الامبراكونية” ومظاهرتصادماتها مع الطاريء الغربي النموذجي، والاستعماري المباشر.

 

ومن بين اهم واكبر مايسجل في هذا السياق من احداث كبرى، ما رايناه بعد ثورة 14 تموز 1958 او ابانها، من مظاهر اعتبرت ونظر لها الكثيرون، بما فيهم يساريون متحررون، لكنهم ماخوذون بقوة المنظور الغربي، من قبيل الخرق لمايجب ان يكون، او لماهو نموذجي ومثالي، ويتفق مع مفهوم الصواب طبقا للمدنية العقلانية، ولقد لاحظ البعض بالمقابل ظاهرة من نوع “اكل الجماهير العراقية للحكام السابقين في الشوارع” ـ للكاتب التونسي العفيف الأخضر انتباهة ملفته لذلك المظهر ذكره في ندوة، كما تعرض له في مجلته ” المجالسية” ـ او شملوها بتعليقهم، غير ان أحدا منهم لم يلاحظ فعاليات انطلاقة مجتمع “اللادولة” لحظة تمكنه من إزاحة وسيلة قتله والاجهاز على نظام علاقاته التاريخي، بما في ذلك طرد الفلاحين في الريف للاقطاعيين العفوي، وتعطيل جهاز القمع البوليسي “مراكزالشرطة” لقرابة الستة اشهر، و احتلال الشوارع بالتظاهرات الصاخبة، والتآخي المجتمعي والاعترافات العلنية التطهرية بالذنب، أي ميل المجتمع المنطلق من القمقم لاقامة عالم من نوعه، بلا اقطاع، ولابوليس، ولا احقاد، عالم الحكام فيه يقطعون اربا، تعبيرا عن غربتهم عن المكان والبنية المجتمعية عالم ” لادولة”، وهذا النوع من “الثورات” هو بلا شك ليس ثورة مصر العسكرية الخجولة، ولاحتى ثورة الجزائر الخاليه من المضمون الانقلابي الشامل، ولا أية ثورة في العالم، انها “المد الأحمر” وعالم “الغوغاء” و “نظام اللانظام” المخالف كليا لقواعد الدول والنظام العالمي، والقيم المتداولة، وقد تفجرفي مكان يقف على حافة برميل النفط الخليجي، وعلى المفترق بين توازن الاستراتيجيات بين الأمم الشرقية والغربية.

 

وهكذا تلقى حضور الغرب والانكليز ممثلين له، الضربة القاصمة الثانية المتجاوزة لكل مقياس متوقع او مختبرعلى صعيد عموم حركة التحرر العالمية، بحيث قالت “الايكونوميست” البريطانية يوم بدء مجزرة 8 شباط 1963 مهللة: “لقد عاد الحصان الجامح الى حضيرته” ولم يكن الايديلوجيون الشيوعيون، وكل الحداثيين اقل حماسة لمثل هذا المآل، فجريمة شباط 1963 ضد الحزب المنتمي لايقاع “مجتمع اللادولة ” الجنوبي، لم يكن ليستقيم، وهو لايصبح ذا مغزى، من دون ربطه العضوي بسطو “عزيز محمد” على زعامة الحزب مباشرة عام 1964، ولا معنى عملي لجريمة شباط 1963 من دون واقعة حلول “عزيز محمد” على راس حزب الشيوعيين العراقيين، فالحدثان الآنفان وحدة، وعملة واحدة بوجهين، تحققت بحكم نفس الضرورة الغربية الاستعمارية، كجزء من حلقات سيرورة تدبيرية، استمرت لعشر سنوات، بدءا من يوم 14 تموز1958 الى 17 تموز1968، اعيد خلالها ترتيب الوضع العراقي بما يقتضي، وبما يجب ان يفضي للاجهاز كليا على مواطن ثورة “اللادولة”، مع تامين أمضى العوامل المفضية لتدمير أسسها ومحركاتها وصولا لمحقها .

 

ليرفض من أراد او ليستنكر ويحتج كما يشاء على هذا الاستنتاج المقرون بالوقائع وبقوة النتائج المتحققة والمعاشة، مع ان مثل هذا الحكم من شانه استثارة نمط متقدم من الوعي بالتاريخ العراقي الحديث ومحركاته الواقعية، ومعطياته، ومسميات ظواهره الفعلية، ومنها كون “الحزب الشيوعي” حزبين، حزب “قومي كردي”، يمثل عمليا مفهوم القومية الحديثة الكردية (ثمة تزوير يستعمل دائما يرى بان التعبيرات العشائرية الاقطاعية او الوسطى، هي ممثلة القومية الكردية الحديثة وهو خطا نظري وواقعي فادح، فهذه القوى لاتنتمي لمفهوم القومية او الوطنية الكردية الحديث، ومن يمثل بالفل مثل هذا المفهوم ويتطابق معه فعلا مع بعض التحوير الايديلوجي، هم من اعتنقوا مفهوم الوطنية وحق تقرير المصير للشعوب الماركسي) وهذا الحزب ليس هو نفسه حزب الشيوعيين الجنوبيين المستند لقوة زخم المجتمع اللادولوي المشاعي الجنوبي، المطابق لخاصيات الدلتا الجنوبية الوسطى في ارض السواد، وعليه فان آليات التدبير الماحق للشيوعية الجنوبيه المحتضنه من مجتمع اللادولة هناك، والمبتدء بانقلاب 1963 ومن ثم خط اب، وصولا الى “الجبهة الوطنية والقومية التقديمة ” عام 1973 هي خطوات تدبيرية دولية استعمارية تمت رعايتها وفق سياسة الاجهاز والضبط الدولي للقطبين المتنافسين في حينه.

 

حزبان قوميان على صعيد المحركات والايديلوجيا، احدهما رئيسي عام ( وطني للعراق ككل)، بنواة قرابية عشيرية وريع نفطي، والثاني واجهة شيوعية، في العلن وطموح العمل كشيوعية/ بعثية جبلية/ محركها قيادة الحركة الوطنية الكردية، والمشاركة في قتل محركات مجتمع اللادولة، وإيقاف فعلها المتداخل مع حزب الشيوعيين الجنوبي، كمثال وعدا عن جريمة عام 1963 فان “الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في 1973 لم تقم الابعد مقتل كل من (محمد الخضري وشاكر محمود وكاظم الجاسم وستار خضير وعبدالامير سعيد ومحمد الدجيلي وجواد عطية وعزيز حميد وعلي البرزنجي وهم من كوادر الصف الأول وأعضاء في اللجنة المركزية قبيل انعقاد الجبهة وبصفتهم عقبة مناهضة لها، وليس فيهم سوى كردي واحد من اصل تسعة) وكان الحزب الشيوعي يتقاضى شهريا مبلغ نصف مليون دينار عراقي شهريا مساعدة من صدام حسين، بينما خصص للسيد “عزيز محمد” شخصيا، راتبا قدره 10000 عشرة الاف دينار، كان يودعها خزينة الحزب التي هي جيبه الخاص، وكان مقررا ان يكون “كراج النهضة” الحالي على ضخامته، مقرا للحزب الشيوعي المعادي بشدة وحماس لايوصف اليوم لنظام الدكتاتورية الصدامية،هذا هو النظام الذي اختاره المجتمع الدولي المهيمن وقرره كعقاب يستحقه الشعب العراقي على هبته العظمى في 14 تموز 1958.

 

إقرأ أيضا