صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

كيف ولماذا هزمنا امام صدام حسين؟ (1)

  قد يكون هذا العنوان مفاجئا للبعض، ذلك لان الحياة الفكرية العراقية تعاني من نمط…

 

قد يكون هذا العنوان مفاجئا للبعض، ذلك لان الحياة الفكرية العراقية تعاني من نمط غريب من الخنق على يد جماعة من بقايا النزعة الحزبية الايديلوجية المنهارة والمتراجعة تاريخيا، فهؤلاء يرفضون او هم لم يتربوا على مبدأ ومنطق، اخضاع الحزب وعمله لمشرحة المقتضيات والمصالح الوطنية، او استعمال الفكرة التي اسس عليها الحزب طبقا للشروط والمكونات البنيوية العراقية التاريخية.

 

وتعود اصول هذا التناقض الفاضح، الى الامراض القاتلة التي رافقت التاسيسأت الاولى للتيارات الوطنية الحزبية منذ الثلاثينات، وهي التي كانت وراء هزيمة الحزب الشيوعي، واندحار مشروعه التاريخي، ماقد بدأ يتجلى خصوصا ابان ثورة تموز 1958 وتسبب الى حد بعيد، في تعريض الحركة الوطنية وسندها الحركة الشعبيه، وزخمها الهائل، للتراجع والانكسار، وعلى الرغم من توالي الهزائم والنكسات، فلقد ظل التيار “الحزبي الايديلوجي” الغالب، والمهيمن على مقدرات الحزب، متمسكا بنفس نزعته، عامدا باصرار، الى فرض تفسيراته المضللة والمراغة على الاحداث والوقائع والظواهر الوطنية، الى ان تضخم مظهر افتراقه عن نبض الحياة والحركة الشعبية، وتحول الى قوة كابحة لاي محاولة من شانها الايحاء بولادة فرص، او احتمالات ايقاف المفعول المعيق والمخرب لسطوة “الحزبية المستعارة ” بدل المحركات الحقيقية للتاريخ العراقي المعاصر.

 

وقد ظلت الحالة المذكورة مستمرة ومسببة للكثير من مظاهر الاعاقة والشلل في الحياة السياسية العراقية، ليس فقط لان النمط الحزبي، ومن يمثلونه مازالوا، واستمروا يمارسون سياستهم واساليبهم المعروفة، بل ولان الحياة الفكرية في العراق، ولاسباب تاريخية موضوعية، لم تعرف دورة نهوض تأسيسية ثانية، بعد تلك التي عرفت وقتها في الثلاثينات تحديدا، صعود “الوطنية الحزبية”، وبرغم تراكم الاسباب الهائل، الا ان حركة الافكار ظلت حتى في حال الإعتراض، تتمسك بنفس الارضيية، متخذة وجهة التياسرفي الغالب، ومحيلة الصراع الى ” الايديلوجيا” نفسها، والى تكرارالتمسك باسبقية الحزبية على الوطنية، التي هي الاصل الذي ينبغي محاكمته والانطلاق من بوابته، قبل الامل في الدخول الى اي تاسيس انقلابي وطني تاريخي.

 

يتصور “الايديولوجيون” بان الافكار التي يتعاطونها “هم يستعملون تعبير: “يؤمنون بها، وهذا مستحيل ومتوهم بحكم كونها منقولة ومستعارة” هي الواقع، مايجعل تسلطهم وحتى استهانتهم بالوقائع من قبيل التصرف الروتيني، غير ان تقصد ملاحقة هذا المظهر يمكن بالمقابل ان تاخذ شكلين ووجهتين، الاول ايديلوجي من ذات الترسانة، والثاني وطني تتحكم به مقتضيات اخرى مختلفة، ومن سوية مغايرة كليا، ولان حديثنا هنا لايتبنى الموقف الايديلوجي المضاد لـ”الايديلوجي”، فهو يذهب لتطبيق علم الاجتماع في تعيين اشكال ومسببات تكون الممارسة الايديلوجية من قبل فئات اجتماعية من المتعلمين، صادفوا ظروفا مستجدة على الصعيد العالمي، مع تداخلاث  ووطأة الحضور الإستعماري، والاستقطاب الدولي، وزخم الرفض المجتمعي العراقي الحاد الواسع على الاحتلال، مع هيمنة الفراغ التمثيلي الوطني، وغياب الحركة المناسبة القادرة على تأطير الحركة الشعبية، ماحفز الفئات المتعلمة الجديدة، وبالأخص المنحدرين من فئات مهمشة ومبعدة بالاصل من التمثيل، او الحظوة الاجتماعية، كي يصعدوا سلم المكانة الإجتماعية والجاد وان بثمن باهض،  ومصاعب هي من طبيعة واقعهم.

 

ولا تذكر مثل هذه الحوافز عادة من بين الاسباب التي ادت لهيمنة “الحزبية الايديلوجية” منذ الثلاثينات في الحياة الوطنية العراقية، بينما اسبغت على ظواهر من قبيل دور اليهود او الاكراد والأقليات، اوصافا وتسميات مؤامراتية، مع انها مفسرة واقعا وبداهة ضمن مجتمعات تخرج من العثمانية لتغرق في الاصداء الحديثة الاوربية، مجتمعات تزدحم ليس با لتنوع الاثني والعقيدي وحسب، بل وبتهميش طويل يمتد لقرون لمكونات غير قليله الاعداد، وتمتاز بالحيوية والفعالية، بل والاصالة ضمن الحياة العامة، وهذه مع توفر طاقة وزخم رفض هائل سببه الاصطدام بين المجتمع وجوهر تكوينه، وبين ثقل وخطر مايعنيه ويهدف له الحضور الاستعماري، كان من شانها ان اوجدت وضعا استثنائيا، وفرصة سانحة كي تتمتع الفئات المتعلمة بمكانة لم تكن لتحلم بها، مايمنح حركة تشكلها وسيرورتها وخطابها “التضحوي/ الايماني”، تفسيرات اخرى غير تلك التي تردد عادة، من قبيل على سبيل المثال الحديث عن “التضحية في سبيل الشعب” او “ممارسات الايمان والصلابة”، وحقيقة بواعثها، ونسبة مايعود منهما لمايقال ويردد باستمرار، مقابل ماهو فعلي، وينتمي للحقيقة المعاشة، كما لتعقيدات الصراع والتحولات المستجدة في العراق والمنطقة والعالم.

 

ومع اننا نتحدث هنا بالاجمال، على امل التفصيل لاحقا، فان مانقصده ليس التعريض باي تيار او اتجاه بذاته، اي ان تناولنا ليس له الطابع الايدلوجي التنابزي، ومأنامل التوصل لنتيجة بشانه ينصب بالدرجة الأولى، على تلمس التناقضات بين العقل العراقي ان وجد،مقابل العقل الايديلوجي، واذا كان هنالك من تصادم وتفارق، او تناقض بين الاثنين، والاهم من ذلك اذا كان ثمة اضرار قليل او كثير وفادح، بالسيرورة العراقية الوطنية الراهنة والشاملة مبعثها طغيان الايديلوجيا على الوطنية.

 

وفد يسال والحالة هذه: ترى لماذا رضخ الواقع الفكري والسياسي الوطني العراقي بهذا القدر للايديلوجيا الحزبية، وهل الوطنية العراقية لها بالفعل مواطن يعتد بها من الاستقلال تماماعن هذا المنظور او المفهوم، سواء اكان قوميا بعثيا ليبراليا، او ماركسيا، ام ان هذا التجلي الذي استمر مهيمنا لعقود كان مجرد “ذاتية زائفة” وانتقالية طارئة فرضتها لحظة تاريخية؟

 

يصل الامر أحيانا درجة من الاسفاف والابتذال المعيب، لايجوز معه قبول حتى التبريرات الايديلوجية، من قبيل على سبيل المثال، مانسمعه ونراه اليوم من تحريم مطلق وشيطنة لاوصف لهما لمرحلة الحكم البعثي الصدامي، وبالأخص من قبل من يسمون انفسهم “الحزب الشيوعي العراقي” او بالأحرى “الشيوعية الحزبية”، العاملة اليوم تحت ظل ال”عملية السياسية الطائفية” المهيمن عليها من قبل الإسلام السياسي الطائفي، فهولاء لايتورعون عن رفع سيف الاتهام ب “الخيانة”، والعمل مع “المخابرات” الصدامية، بوجه أي كان، لمجرد انه لم يتخذ موقف حرق الغابة لان فيها “وحش” هو بعبع صدام حسين، فلا إسرائيل والذهاب لها، او حتى العيش فيها، ولا أي مكان، بمافي ذلك بيت الشيطان، يمكن ان يقارن في درجة إيقاع الحرم عليه بالمكان المسمى العراق أيام صدام حسين، ومن الطبيعي ان يرفض أي متابع او مراقب لمثل هذا المسلك، مابعد المتطرف، المغالي حدود الجنون المرضي المعيب، وقد برز فجاة عبر بعض المقالات المتاخرة لنكرات، ومؤسسات تابعة لمشبوه ولص، وكانهم يريدون اختلاق حيثيات قيمية وشخصية، تكاد تدفعنا للتسلي بعودة ظاهرة “خلف بن امين” التي هي من منتجات الكوارث وازمان الانحطاط.

 

ولا اريد ان اطيل الحديث ساعيا خلف التفاصيل في هذا الجزء من الحديث، بل ساتجه للتوثيق وايراد النصوص المنشورة والمواقف المعلنة، خاصة تلك الصادرة عن مايسمى الحزب الشيوعي العراقي، وساركز بهذه المناسبة على مواقف اتخذها الحزب المذكور عام 1977 أيام تحالفه الجبهوي مع نظام صدام حسين، تعقيبا على حدث انتفاضة خان النص الإسلامية التي شملت كربلاء والنجف، كما بعيد هذا الحدث، خلال المؤتمر الرابع عام 1984 بعد ان تحرر هؤلاء من التبعية لصدام ونظامه او اجبروا على “التحرر”، من دون اخضاعه فورا للمحاكمة والتحليل، فلقد أوردت جريدة “طريق الشعب” في افتتاحية لها يوم 27 /2/ 1977 : عقبت فيها على بيان صادر في عن الاجتماع الكامل “للجنة المركزية للحزب” عقد في 18 / 2/ 1977 جاء فيه مانصه:

 

“ان اتخاذ إجراءات الحزم ضد النشاط التآمري، حق من حقوق الثورة، ومبدا يحدد واجبات القوى الثورية في صيانة منجزاتها”:

 

ولنترجم نص الاجتماع الكامل للغة بسيطه: فالبيان يبرر بلا لبس أولا اجراءات القمع والإرهاب التي لجأ لها نظام البعث الصدامي ضد الحركة الإسلامية المنتفضة ضده: “اتخاذ إجراءات الحزم”، وهو يقول ان نظام صدام حسين “ثورة” تمارس “حقوقها” صيانة لمنجزاتها، ذلك مع العلم ( ان الحزب العتيد المتحالف مع صدام، سير وقتها دوريات مسلحة مشتركة في النجف وكربلاء مع اعضاء حزب البعث، كما حمل قبلها السلاح في جبهة ” الجحوش” ضد الاكراد عام 1974 ) فلنعد الى ماقد علقت به الجريدة الرسمية للحزب و ونطالع ماذا اضافت؟

 

ادناه نص ما اوردته:

 

“وعلى هذا الأساس الذي رسمه بيان اللجنة المركزية، فاننا ننظر الى الإجراءات الرادعة التي اتخذت بحق العناصر البارزة التي ساهمت في اعمال التخريب والتآمر باعتبارها حقا من حقوق الثورة في الدفاع عن المنجزات التقدمية والمسيرة الثورية التي اختطتها قيادة السلطة الوطنية وايدتها واسهمت في تحقيقها جماهيرالشعب وقواه التقدمية، ونود ان نشير الى الأهمية الكبيرة للموازنة الدقيقة التي تم الاستناد اليها في الموقف من العناصر المخربة، ضرورة انزال العقوبات الرادعة والصارمة من جهة، واخذ جانب الاغطية الاجتماعية التي استخدمتها قوى التآمر بعين الاعتبار من الجهة الأخرى، ( استحسان للبراعة في استعمال القمع والعنف ضد المنتفضين ـ ملاحظة من عندنا،) ان مثل هذا المنطق السليم (الذي مارسته السلطة الثورية) يضيع على المخربين واسيادهم فرصا يتوهمون انهم قادرون على استخدامها في أعمالهم التامرية اللاحقة” انتهى النص.

 

ولا داعي لان نضيف مزيدا من النصوص التي تطفح بوصف نظام البعث بالوطنية والثورية، وتعترف بحقه في استعمال الإرهاب والقمع ضد الحركة الإسلامية التي يتملقونها بخسة الان، رافعين راية الخيانه فوق راس كل من اقترب خلال تلك المرحلة، او اضطر للعيش في بلاده (ولم ينتحر ويرمي باولاده للفاقة)، اويحرق بلاده، ويتبرأ منها لان صدام والبعث يحكمانها، مسيدين منطقا من المزايدة التي لايصح القول في وصفها سوى انها “عهرسياسي واخلاقي يخجل منه العهر نفسه” يزكم الانوف، و يشمئز منه أي شخص يتمتع ليس بقدر عادي من الوطنية والشرف، بل واي كائن ينتمي الى البشر الاسوياء.

 

هذا علما بان النصوص أعلاه صدرت عام 1977 أي بعد تسع سنوات على قيام نظام البعث الصدامي، قبل ان يقرر النظام طرد هؤلاء، والاستغناء عن خدماتهم، على خلاف ارادتهم ورغبتهم، الى ان عقدوا وهم في الخارج عام 1984مؤتمرهم الرابع ليرد في وثيقة تقييمهم لتجربتهم بين ( 1968 ـ 1979) مايلي:

 

(الاتجاه الأول: ان سياسة الحزب خلال فترة التحالف الجبهوي كانت يمينية ذيلية كادت تؤدي الى حل الحزب.

 

الاتجاه الثاني: أشار الى ان الحزب لم يخطيء في تحالفه الجبهوي مع حزب البعث وانما كانت هناك أخطاء يمينية خلال سير العمل الجبهوي. وقد تبنى المؤتمر الراي الأخير).

 

إذن فلماذا يتصرف هؤلاء اليوم، ومرة أخرى كدلالي سياسة منحطين، ووشاة متطوعين ولمن؟.. للذين كانوا يشون للبعث وصدام حسين بهم، ويطالبون بممارسة الإرهاب والاعدامات بحقهم، ويبررونها.. هاهو موقف هؤلاء من صدام حسين ونظامه بالوقائع والنصوص مثبت اعلاه، بلا زيادة ولا نقصان، موقف مصابين بمرض عضال اسمة الوشاية والالتحاق الذيلي والتخوين، واغتيال السمعة، والتسقيط، يستعملونها وسيلة أساسية وبمقدمة أسلحتهم في العمل وفي الحياة.

 

يتبع..

 

إقرأ أيضا