درجت المرويات الشيعية على ترسيخ فكرة التجلي والغياب للإمام المعصوم، ولعل قضية السفراء الأربعة وفق العقيدة الامامية تظهر التواصل ولو بصورة غير مباشرة بين الامام وجمهور الأمة، قد يتخذ الغياب التدريجي للإمام نزع فتيل الصدمة عند السواد المؤمن به، من هنا اتخذت السفارة طابع الضمان للتواصل، واستناداً الى المرويات نفسها مثلت المرجعية المسبار الذي يضيء للناس ما أشكل من أمور دينهم ودنياهم، واتخذ التواصل طابع الديمومة وان كان خاضعاً لدرجات من الخفوت والسطوع بحسب المعطيات الحافة به، يبقى في مجمله استنطاقا لرأي المرجعية من طريق السؤال والاستفتاء بشكله التقليدي، غير أن خطبة الجمعة مثلت مساراً مختلفاً لما تود المرجعية طرحه من أفكار وآراء، فهي فاعلة في هذا المسار وليست مستنطقة من قبل أسئلة فردية، ومرجعية السيستاني مثلت الضابط للوضع العراقي بعد ٢٠٠٣ هذا الوضع المضطرب والغامض والسائر نحو المجهول والذي أقحمت فيه المرجعية بشكل او بآخر، غير ان هناك نقطة اختلاف جوهرية بين تواصل الامام وتواصل المرجع: يبقى الامام على قيد الحياة الى ان يأذن الله في حين ان المرجع شخص كسائر البشر يخضع لنواميسهم والسيد السيستاني رجل طاعن في السن فهو قريب من الموت والموت قريب منه كما عبر أستاذه الخوئي ذات يوم، من هنا يبزغ التساؤل عن كيفية التواصل بعد امتناع المرجعية عن البت في الشأن السياسي في خطب الجمعة، مسبوقا بوصد ابوابها امام الطبقة السياسية التي اوصلتها الى درجة اليأس؟
يشعر السنة بمشاعر متناقضة من الانبهار والكراهية حيال السيستاني فهو الرجل الذي أوصل الشيعة -عبر ما يطلق عليه بالقيادة الطوعية- الى مقاليد السلطة، فضلا عن عدم تشرذمهم الى فئات متناحرة، في ذات الوقت، مثل السيستاني الضمانة الوحيدة للجم جنوح الجمهور الشيعي وعدم انجراره الى الرد الجمعي على مشاهد القتل والتفخيخ اليومي والحيلولة دون جره الى فتنة لا تبقي ولا تذر، الامر الذي شكل نوعاً من الحماية الضمنية للجمهور السني في العراق، يسري هذا التناقض الى مشاعر الكرد تجاه السيستاني، فمن ناحية هناك امتنان كردي تاريخي يعود جذره الى موقف النجف بعدم جواز قتالهم في القرن الماضي، ومن ناحية أخرى لا يخفي السيد البرزاني ارتيابه الدائم من العمائم السوداء في النجف، وهل في النجف اليوم عمامة اكثر سواداً من عمامة السيستاني! غير أن المكون الشيعي شكل الالتباس الأكثر خصوصيةً في هذ المجال، فمالين علاقة خاضعة لشد وجذب مستمرين حول الزعامة وأهلية التمثيل مع التيار الصدري يرافقها نوع من الاحتماء الأبوي -كما حصل في حيلولة السيستاني دون انهيار جيش المهدي ٢٠٠٤ أثناء معارك النجف -الى علاقة برغماتية استثمرت السيستاني للقفز على السلطة والشعور بان مرجعيته عبء عليها فيما بعد (المالكي مثلاً)، الى محاولات المجلس الأعلى احتكار السيستاني والبحث قي الوقت نفسه عن بديل يؤمن هذا الاحتكار من دون ان يكتب النجاح لأي من المحاولتين، تبقى علاقة السيستاني بالجمهور الشيعي هي الأكثر التباساً، فقد عانى الشيعة ما عانوا من قتل ممنهج ضدهم من ناحية وخياراتهم الانتخابية التي جرت عليهم الويلات وأوصلت البلد الى شفير الانهيار الجغرافي والاقتصادي، رغم كل هذا، ساد نوع من الاطمئنان الداخلي بان السيستاني هو الأمل الأخير القادر على تصحيح الأوضاع وقلب الطاولة على الطبقة السياسية القائمة. ولكن يبقى التساؤل: ماذا بعد السيستاني؟.
مؤيد آل صوينت: كاتب وأكاديمي عراقي