متى يموت الدكتاتور؟!

مشهد: (حين اعتلى منصة الاعدام التي ساق إليها خلال مدة حكمه آلاف الشباب كي يسلمهم…

مشهد:

(حين اعتلى منصة الاعدام التي ساق إليها خلال مدة حكمه آلاف الشباب كي يسلمهم الى الموت، مبتسما ابتسامته الخبيثة التي تنم عن انكسار نفسي هائل، وعن رغبة لطرد صورة الواقع، وعن أمنية خبيئة بأن ما يحدث ليس يقينا، حتى عندما التف الحبل على رقبته، وصار الأمر واقعا محتوما، وأيقن أن لا سبيل الى نكران ما يحدث، تمكن قبل السقطة الأخيرة أن يتلفظ نصف الشهادة، في تلك اللحظة، التي ما زال كثيرون ـ ليس على مستوى العراق فقط، بل العالم اجمع ـ يختلفون بشأنها، وعلى الرغم من مشاعر الفرح التي استيقظت بعد عمر طويل من الألم في نفوس الناس، ورؤيتهم لسقوط جلادهم أرضاً، فإنهم لم يعلموا ابدا ان صدام لم يمت.. ولن يموت.. ومن ينكر هذا، فهو واهم الى حد بعيد).

…………

صدام موجود في العراق، على مستويات عدة. موجود بتمثلات عديدة، وأشكال، وأنواع، وأحلام، وطموحات، وسلوكيات، وأفكار، وتوجهات الكثيرين. موجود في أدق الاشياء، وأعظمها. قد لا نحس به، وقد نتصور جميعنا أننا تخلصنا من ركامه، لكن هذا العبث بعينه، فصدام، هو 35 سنة او اكثر من التهديم، والاغواء، والترويض، والترويع، والموت، والقتل، والتهديد، والاقناع، وما مر بنا بعده، ومن مر أيضاً، لم يحمل اي برنامج اصلاح، او خطة بناء. لم تحمل لنا الظروف بعد رحيله ـ غير مأسوف عليه ـ اي شيء يمكن ان يزيل آثار مدة حكمه، وربما وجدنا العكس، وجدنا ان من كان متمترساً يخوض معاركه ضد طواحين المنافي بقصد المعارضة، يحاول الآن بشق الأنفس أن يكون صداماً ثانياً.

 

صدام موجود في العراق، بقوة، في احلام السياسي الذي يعتلي سلم السلطة ليحقق مجداً شخصياً، ويعيش ترف الملوك والأمراء، ويملأ خزائن المصارف الأوروبية والعربية بأموال، يظنها مقتنعاً، أنها حق سُلب منه على حين غرة، وآن له أن يستعيدها. وصدام موجود لدى من يرفض الآخر، من كل المسميات، والتوجهات، والأطياف، راسخة في عقله ثقافة السيطرة والهيمنة، وأن ما على الارض هو أحق به من سواه. صدام موجود في كل خلل وظيفي، وبنائي، على صعيد المؤسسات، وفي كل الفوضى والفساد وانعدام المسؤولية. موجود في ثقافة (آني شعليه)، و(نفسي قبل الآخرين). موجود في (هو بلد رايح.. منو يقرا منو يكتب). موجود في كل سلوكية سلبية انهزامية، ارتخائية، انبطاحية، استسلامية.

 

الدكتاتور موجود بقوة، في أذهان الأميين إنسانياً، ومن لا يعرفون التمييز بين القاتل والقتيل، ومن لا يستشعرون آلام وطن كامل. موجود بقوة حيث ينعدم الضمير الانساني، وحيث يسود العقل غير المنطقي الذي لا يحسن المقارنة أبدا، ويظن ان ايام الطاغية هي زبدة الحياة.

 

الدكتاتور موجود داخل كل من لا يرى أفقاً غير قتل الآخر وازاحته عن الطريق، وان الدم وحده له الكلمة العليا في توجيه الأمور، وأن لا حل آخر سوى مزيد من الموت لكي يعيش، فصدام ليس في النهاية سوى مغامر أهوج أخرق لم يعرف للعدل والحق طريقاً أبداً.

 

كل خراب، وكل موت، وكل عودة الى الوراء، ممهورة وممضية بتوقيع صدام، وكل قطرة دم ستراق بعد 100 عام، هو من يتحمل مسؤوليتها، وأي جريمة سترتكب في العراق بعد 500 عام، هو عرابها، وصانعها، والدافع اليها، وراعيها.

 

لن يموت صدام، إلا حين نلقي هذا الركام بعيدا، ونسلخ أنفسنا من ذاكرة الموت التي تعيش فينا، ومن وهم الاحباط والانكسار والخوف. كلما خفنا أكثر، كلما كبر شبح صدام في اعماق الناس، وزاد وطأة وعنفا وموتا.

 

لن يموت صدام، إلا عندما يستعيد المجتمع العراقي جزءاً كبيراً من شخصيته، وقيمه، وخلقه، ويعيد بناء ما تهدم منها، وما تكسر على عتبات السنوات الخمسين الماضية.. في ذلك الوقت فقط، يمكن ان نحتفل بموت الطاغية الذي يرفض فكرة موته حتى اللحظة.

…………….

في آخر لحظات حياته، قال نابليون: “لقد كنتُ دكتاتوراً رغماً عني، لأنهم كانوا يعرضون عليَّ من السلطة أكثر مما أردتْ، وأكثر مما كنت بحاجة إليه”.

 

إقرأ أيضا