في الوقت الذي بدأت فيه الصفحة العسكرية لمعركة تحرير مدينة الموصل من داعش, فان القلق لازال يساور اوساطا عدة من المسار السياسي الذي في النهاية هو من يحدد نجاح او فشل الحملة العسكرية وفق الاهداف النهائية, وهذا القلق مشروع جدا سيما وان الاحداث اثبتت ان سقوط الموصل كان سياسيا قبل ان يكون عسكريا, فهل هناك مسار سياسي يمضي بشكل متناسب مع الجهد العسكري ويغطيه؟, ففي تراثنا العربي والعراقي الحديث هناك الكثير من الحروب وبعض الانتصارات العسكرية وقليل جدا من النجاحات السياسية التي تعكس الانجاز العسكري وهو امر له علاقة بعوامل ومفردات كثيرة ليس هنا مجالها. منذ سقوط الموصل ووصول داعش لمشارف بغداد وتهديدها اربيل عاصمة اقليم كردستان تعبيرا عن فشل سياسي متراكم وجد تعبيره العسكري في لحظة تاريخية لكي يبرز مدويا وصارخا بعد ان تم التحايل على الحقائق وحرف الوقائع لتغطية هذا الفشل.. بدا واضحا ان المسار السياسي هو المشكلة وان اي اعادة نظر في ملف المؤسسة العسكرية وادائها لا يمكن ان ياتي بنتائج ايجابية مالم يكن جزءا من تصور سياسي متكامل يلحظ اسباب الفشل السياسي ويبدأ بمعالجته ثم يمكن ترجمة ذلك على إصلاح المؤسسة العسكرية.
ومنذ البدء وفي اجواء الهزيمة الشنيعة رفض مسببو الهزيمة والممسكين بالسلطة السياسية بعناد وقوة تحمل اي مسؤولية وتمسكوا بالسلطة رافضين اي اصلاح ضروري لاعادة بناء المؤسسة العسكرية, لانه كان سيمر بالضرورة على مصالحهم وهي غير مشروعة في الغالب وقد يجعلهم تحت طائلة العقاب، وكان لهم ما ارادوا سيما وان هناك مصالح كبيرة لقوة اقليمية هي ايران تتضرر من الاصلاحات التي ستمس الشكل السياسي للنظام في العراق والذي يحقق مصالح ستراتيجية وعقائدية لها, لكن الضغط الشعبي من اجل تغيير ما اضافة الى مخاطر حقيقية من انهيار يضر معظم الفاعلين السياسين المحليين والاقليميين والدوليين وبضمنهم ايران وحلفاؤها في بغداد ووجود مصلحة امريكية قوية في الاصلاح وان من زاويتها ورؤيتها ما سمح بظهور هامش للحركة يسمح باجراء بعض الاصلاحات غير الجوهرية ولكنها ضرورية للحفاظ على المعبد من الانهيار,وقد كانت باكورة ذلك ازاحة المالكي رمز الفساد والفشل السياسي وهي عملية صعبة ماكان لها ان تحدث لولا تنازلات وضمانات وتحالفات ضيقت كثيرا من مساحة الاصلاح ودرجته,ولذلك فقد تميز العنصر البشري الذي اسندت له مهمة الاصلاح بالضعف وعدم الكفاءة وهو ما ترتبت عليه بعض النتائج اهمها محدودية الاصلاح وعدم منهجيته واتساع هامش الحركة الاميركي في السياسة الداخلية العراقية بعد التراجع الذي حدث للدور الاميركي منذ انسحاب القوات الاميركية من العراق اواخر العام 2011.
ان محدودية الاصلاح وقوة معارضيه ادى الى ان يتركز فقط في مواضيع محددة تحظى بقبول القوى الفاعلة داخليا وخارجيا واهمها ملف المؤسسة العسكرية التي وصلت درجة من العجز المهني يشكل خطرا على وجود الدولة العراقية واستقرار الاقليم ومصالح وتوازنات خارجية, وقد اولى الاميركان اهتماما جديا غير مسبوق باعادة تاهيل المؤسسة العسكرية تنظيميا وتسليحيا وتدريبيا وبدرجة محدودة جدا بشريا وهو ماكان تاثيره واضحا في الاداء المتصاعد للجيش العراقي في معارك تحرير تكريت والرمادي والفلوجة والشرقاط والقيارة..حيث يتوقع اداءا افضل في معركة الموصل الجارية حاليا.. لكن معركة الموصل من الناحية العسكرية ليست هي ما يجب القلق بشانه رغم وجود احتمالات ومفاجئات وعدم اكتمال منظومة القيادة والسيطرة, وشكلية تبعية فصائل الحشد الشعبي للقيادة العامة للقوات المسلحة, اذ ان المسار السياسي للمعركة لازال يثير الشكوك والاسئلة حول مدى سيطرة صانع القرار في بغداد على هذا المسار, فرغم الاجواء السياسية الايجابية نسبيا التي تحيط بمعركة الموصل الا انه من الواضح ان المقدمات السياسية للمعركة ليست كافية وهناك استعجال لاسباب لاعلاقة لها بظروف المعركة فالوضع السياسي لازال هشا بما يكفي لحدوث انتكاسة سياسية (وقد تؤدي الى انتكاسة عسكرية) وهذا على المستوى المحلي الذي يمكن التعاطي معه والسيطرة عليه بدرجة افضل من المسار السياسي على المستوى الخارجي وهو ما يتجلى بالازمة مع تركيا والتي يمكن ان تكون له تاثيرات على التوازنات السياسية الداخلية ايضا فالدعوات التركية رغم عدم مشروعيتها وارتباكها مدعومة من السعودية بشكل خاص ودول عربية اخرقد تؤثر سلبا على الوضع السياسي الداخلي الهش والذي قد يكفيه حادث واحد كي تعود الاصطفافات غير المؤاتية لمعركة الموصل وما يترتب عليها من نتائج على المعركة السياسية والعسكرية.
لقد تحدث كثيرون عن معركة الموصل كفرصة لتوحيد العراق واعادة الثقة بين المكونات الاجتماعية والسياسية, وهو امر صحيح مبدئيا ولكن بعد اكمال ونضوج العديد من العوامل التي من الواضح انها لم تصل لهذه المرحلة مما قد يؤدي لانتكاسة لا تاخذنا الى النقطة السابقة بل قد تنهي اي امل بتوحيد البلد.. لقد كان قرار عدم دخول الحشد الشعبي الى الموصل عاملا ايجابيا في توفير بيئة سياسية ملائمة تحاصر بعض التوترات والشكوك وهو تعبير عن نضج حكومي كما ان التنسيق العالي مع اقليم كردستان وتحديد الادوار ايضا عاملا سياسيا مساعدا في حماية المسار السياسي للمعركة غير انه من الواضح ان هناك عوامل اخرى لازالت تشكل منافذ لاخطار تهدد هذا المسار.. فبعض التصريحات الصادرة عن بعض قادة فصائل الحشد الشعبي التي تتسم بروح انتقامية وطائفية دون ان يتم الرد عليها بشكل حازم من الجهات الرسمية, تشكل مصدرا لارباك التوافق السياسي الهش اضافة الى عدم وضوح الفواصل المعلنة في المجال العملي وهو عنوان عام تنضوي تحته مفردات عديدة مثل احتكار السلطة للسلاح وانكار وجود تجاوزات على المدنيين في المناطق التي تمت استعادتها من داعش والاصرار ان ذلك امر مبالغ فيه او مفبرك وعدم ظهور دلائل على اجراءات عقابية متناسبة ضد منتهكي حقوق المدنيين وهو ما لايشجع مواطني الموصل والسنة العراقيين عموما على محض دعم مطلق للقوات القادمة لاستعادة الموصل كما يوفر هامشا لبعض الدول الاقليمية لتبني مظالم هؤلاء.
ان بعض الاصوا ت في بغداد تتعالى مهددة بمقاضاة اولئك المؤيدين للتواجد التركي في شمال العراق تخدم الادعاءات التركية والسعودية، فالحديث عن الوطنية بالشكل المجرد ليس امرا صحيحا ولا يخدم قضية تحرير الموصل ولا يقنع الجمهور السني العراقي بحديث الحكومة الوطني اذ لايمكن القفز على الواقع من اجل حل مشاكل تحتاج عمل واجراءات تاخذ وقتا فعندما يظهر شخص يقود مجموعة مسلحة في لقاء اعلامي ويتحدث عن انحيازه الى ايران في اي مواجهة مفترضة مع بلده العراقدون ان يتعرض للمساءلة وفي وقائع عديدة اظهرت عدم وجود تحسس من النفوذ الايراني واي دور ايراني في العراق, وهذا ماقصدناه حين تحدثنا عن عدم نضج الظروف السياسية وهشاشة الوضع السياسي وهي امور كان يجب العمل الجاد والمخلص على تداركها قبل المعركة, حيث ومن الزاوية الاخرى يبدو واضحا وجود قبول لمعظم الخطوات الايجابية التي قامت بها حكومة العبادي في اطار تحقيق توافق وطني وهو ما يدل على ان هذا هو الطريق الصحيح وانه رغم بطئه وصعوبته فانه الاضمن ولذا هو يتعرض لمحاولات الافشال من جهات عدة تتضرر مصالحها من نجاحه فكلا المتطرفين من السنة والشيعة يخسرون بنجاحه حيث سيفقدوا دورهم القائم على الاصطفاف الغير موضوعي والمصطنع ليحل محله اصطفاف من نوع اخر تكون فيه الكفاءة والنزاهة والوطنية هي المعيار كما ان معظم النخب السياسية الحالية ستفقد دورها في حال المضي بهذا الطريق والنجاح فيه..ان علينا ان نلحظ ان نسبة كبيرة من الجمهور السني رغم وجود اسباب واقعية كثيرة للشك وعدم الثقة بالاجراءات والتصريحات الحكومية الا ان الموقف من الجيش قد تحسن كثيرا وهناك ثقة متزايدة به كمؤسسة وطنية يمكن الاحتماء بها الامر الذي تعزز مع كل اداء جيد ومع بروز عدد من القادة العسكريين الكفوئين والمهنيين والوطنيين في الفترة الاخيرة.
لقد تحدثنا في مقال سابق عن الازمة الناجمة عن التواجد العسكري التركي في شمال العراق, والان مع توسع الجانب السياسي للتواجد العسكري التركي في شمال العراق فان من المهم التاكيد على بعض الامور بالارتباط مع موضوع المقالة وهو المسار السياسي لمعركة الموصل, فخوض المعركة قبل اكتمال المسار السياسي يسمح لتركيا بهامش من الحركة يشوش على طبيعتها ويؤثر على الاصطفافات والاولويات بما يخدم المصالح التركية ويضر بالمصالح الوطنية العراقية ولذا فان من الضروري اعادة تقييم الموقف السياسي والعسكري بشكل مستمر مع متابعة دقيقة للاحداث في داخل العراق ودول الاقليم المهمة ومنها تركيا سيما وانه يبدو واضحا ان هناك احساسا شديدا بالغضب لدى القيادة التركية على مسار الاحداث الذي يمضي باتجاه لا يناسب رؤيتها للمصالح التركية وهو ما يجب الحديث عنه بالتفصيل لاهميته وخطورته, فردود الافعال التركية لحد الان اتسمت بالعصبية والارتجال بما لايتناسب مع دولة هامة مثل تركيا وهو مؤشر على الاحساس بخيبة الامل والاحباط، حيث وبسبب الظروف التي تمر بها تركيا فان الاتراك قد يكونوا راغبين بصدام من نوع ومستوى ما مع الجيش العراقي من اجل تحقيق بعض الاهداف السياسية التي لم يعد تحقيقا ممكنا بطرق اخرى سيما والاحساس التركي بالمرارة من تخلف السياسة التركية عن اللحاق بالتطورات السياسية وهو امر يتضح من العبارات غير الدبلوماسية واحيانا غير المنطقية التي اطلقها الرئيس التركي ومساعدوه بخصوص معركة الموصل,ولذا فان اللاعب التركي قد يصبح خطرا وغير حكيما في سلوكه تجاه العراق وهو يرى المعادلات والوقائع تكتب دون دور له وليس افضل من العراق في ظروفه الحالية خصم ضعيف يمكن من خلاله تحقيق بعض الاهداف السياسية او ارسال رسائل لاخرين دون اعتبار لامكانية تحقيق مصالح تركيا بسياسة طويلة النفس لم تعد تركيا قادرة على المضي فيه بعد ان سبقها فيه لاعبون اخرن برعوا ونجحوا فيه.
وهذا يجعل من مهمة العراق السياسية في معركة الموصل معركة اكثر صعوبة وخطرة سيما وان سيطرة الحكومة العراقية على مفردات المسار السياسي كما اوضحنا سابقا غير مكتملة وهشة..ان خبر صدور مذكرة اعتقال ضد محافظ نينوى السابق اثيل النجيفي بتهمة التخابر مع دولة اجنبية وكونه متعاونا في استقدام القوات التركية الى بعشيقة,وهي في رايي خطوة في الاتجاه الخطا وتكشف عن عدم نضج سياسي قد يصطدم بفقدان توازن تركي, فالنجيفي هو احد سياسيي نينوى وله مؤيدين كان الافضل ان يظهر حجمهم الحقيقي بعد تحرير الموصل وافتراض اداء عسكري مهني وانساني مع المدنيين, وقد اثبت تجارب سابقة ان مزايا الغاء دور اي فاعل سياسي مهما كان اقل بكثير من ممارسته لدوره حسب حجمه سيما وان هناك دولة اجنبية تتكا عليه في التدخل في معركة الموصل وقد كان الافضل استيعابه ودمجه ضمن العملية العسكرية للتقليل من ارتباطه بالاتراك بعد ان تتكون له مصالح ومنافع مع بغداد.. ان خوض حرب مع عدو وسط جمهور مع تجاهل جزء مهم من هذا الجمهور امر غير حكيم والنجيفي يمثل بالتاكيد جمهورا معتبرا من الموصليين واخشى ان الحكومة العراقية ستكتشف بعض الحقائق غير السارة عن ولاءات الموصليين والشخصيات المؤثرة عليهم بعد تحرير الموصل عسكريا.
لاشك ان الدور الاميركي عنصر مهم وحيوي للعراق ولكن لا يجب التعويل بالكامل على الامريكان لدعم الموقف العراقي ازاء تركيا سيما والعلاقة الاميركة التركية ليست في احسن احوالها والاميركان يخشون من اي خطوة تجعلها اسوا, وقد كانت التصريحات الاميركية بان القوات التركية لم تحصل على موافقة الحكومة العراقية وان تركيا ليست جزءا من التحالف الدولي وان اي مساهمة في تحرير الموصل يجب ان تتم بالتنسيق مع بغداد وموافقتها وهذه مواقف داعمة سياسيا هدمت الاساس السياسي الذي ادعته تركيا لوجود قواتها في شمال العراق ولعل القصف التي قامت به الطائرات التركية ضد حلفاء الاميركان من الكرد السوريين شمالي ريف حلب يبين المدى الذي يمكن ان تذهب به تركيا في الدفاع عن مصالحها في تجاهل الاميركان واية محاذير اخرى ولذلك فان على العراقيين الحذر في التعاطي مع الاتراك المتوترينوالغاضبين ومحاولة التفاهم والاقناع وتوفير مخرج يحفظ ماء وجه تركيا وهو امر يحتاج لحنكة سياسية تعوض جزءا من عدم نضج المسار السياسي وهو للاسف مالا نراه موجودا وهو امر يمكن ان يجعل من معركة الموصل مدخلا لتفاهمات مع الحكومة التركية التواقة لاحداث اختراق سياسي في ظل الظروف التركية الداخلية خاصة مع بلد ينظر اليه في تركيا كحليف لخصم تركيا الاقليمي ايران..الحذر الحذر في ادارة العلاقة العراقية التركية على خلفية معركة الموصل خصوصا مع خوضها في ظل عدم نضج المسار السياسي واستعجالها لاسباب امريكية لا تتطابق مع الاولويات العراقية.
ان معركة تحرير الموصل الحقيقية هي في تحرير ارادة الناس في الموصل ليحددوا مواقفهم بدون خوف تحت ظل ظروف معقولة,وبعد ان تثبت الدولة متمثلة في اجهزتها الحكومية انها دولتهم وانها معنية باراءهم ومصالحهم وسلامتهم,وما المعركة العسكرية الا مرحلة من معركة تحير الموصل قد لا تكون الاصعب,وان من واجب الحكومة ان تستوعب كل الاراء والمظاهر السلبية وسوء الظن وعدم التجاوب الذي قد تواجهه بعد تحرير الموصل وواجبها تغيير ذلك عبر سياسة جديدة طويلة النفس..وهذا هو جوهر العمل السياسي ..تغيير الواقع.