صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

مغنية أميركية بغدادية الهوى

قدمت “منظمة العفو الدولية”، الأسبوع الماضي، أرفع جوائزها في مجال حقوق الإنسان للعام 2015 للفنان…

قدمت “منظمة العفو الدولية”، الأسبوع الماضي، أرفع جوائزها في مجال حقوق الإنسان للعام 2015 للفنان الصيني آي ويوي والمغنية الأميركية جوان باييز. وقالت المنظمة في بيان لها، إن “جائزة “سفير الضمير” تقدم للذين أظهروا قيادة استثنائية في النضال من أجل حقوق الإنسان رغم حياتهم وعملهم”، ومنحت سابقا لرئيس جنوب أفريقيا الراحل نلسون مانديلا وزعيمة المعارضة في ميانمار اونج سان سو كي.

 

المنظمة الدولية أثنت على باييز لـ”التزامها الثابت بالاحتجاج السلمي وحقوق الإنسان للجميع.”

 

عند باييز موقع أثير لبغداد، مثلما تحفظ الذاكرة الثقافية للعاصمة العراقية أكثر من ملمح جميل، فالمغنية المولودة في العام 1941 لأبوين أميركيين من أصل مكسيكي، حين بلغت العاشرة (1951) حطّت رحالها مع عائلتها في بغداد، التي كانت تستقطب أبرز خبرات العالم في شتى الاختصاصات، ولما كان والدها ألبرت باييز، عالماً فذاً في مجال الأشعة والفيزياء، فانتدب لمنظمة العلوم والثقافة الدولية (يونسكو)، من أجل تأسيس قسم الفيزياء بكلية العلوم في جامعة بغداد.

 

كانت سنة “عجيبة” لعائلة هذا العالم، حد أن الأبوين أصدرا في العام 1988، كتابا عنها حمل عنوان “سنة في بغداد”، اعتبراها “سنة ساعدت على بلورة قيم الأسرة”.

 

في تلك الأجواء العراقية، كانت الصغيرة جوان باييز (10 سنوات)، تخط رسومها للبيئة الجديدة، وقد توزعتها صورة الوالدين في مزيج من الانسجام العائلي. فيما كان الأب ألبرت باييز، يركز على وصف عمله كأستاذ الفيزياء، بينما زوجته تسعى جاهدة لخلق الراحة الأسرية في منزلهم ببغداد، ومد الصلة مع الجيران العراقيين.

 

الكتاب الذي تظهر فيه بعض الملامح البغدادية للمغنية الشهيرة لاحقا، وأبرزها رسوماتها وتخطيطاتها، يبدو كنزا من الذكريات الشخصية لعائلة باييز، والتحديات المهنية والإنسانية التي عاشتها في بغداد، وعلى الرغم من صعوبتها فإن النتائج كانت ممتعة ولا تنسى.

 

وصادف إعلان كونها “سفير الضمير”، الذكرى الخمسين لغنائها لمسيرة حقوق الإنسان الشهيرة “من سلما إلى مونتغومري” في ولاية ألباما الأميركية. وقد غنَّت جوان باييز في تجمع “نجوم من أجل الحرية”، مع زملاء فنانين آخرين، من بينهم هاري بيلافونت (الذي مُنح جائزة سفير حقوق الإنسان للعام 2013) وسامي ديفيز الابن وبيتر بول وماري ونينا سيمون.

 

وفي عرض “منظمة العفو الدولية” مانحة الجائزة نقرأ: “لقد كرَّست جوان باييز جلَّ حياتها للنضال ضد العنف ومن أجل الحقوق المدنية وحقوق الإنسان. فشاركت في مسيرات من أجل الحقوق المدنية جنباً إلى جنب مع الدكتور مارتن لوثر كنغ الابن، ودعت إلى إلغاء عقوبة الإعدام، وقامت بحملات من أجل السلم وضد انتهاكات حقوق الإنسان في فيتنام؛ ودافعت عن العمال الزراعيين المهاجرين في كاليفورنيا؛ وشاركت في تجمعات مناهضة للتعذيب”.

 

وفي السبعينيات من القرن المنصرم أسهمت في إنشاء مجموعات محلية لمنظمة العفو الدولية في منطقة خليج سان فرانسيسكو، ومضت في أداء أغانيها دعماً للمنظمة أثناء الرحلة الموسيقية المبدعة “مؤامرة الأمل” التي نُظمت بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس منظمة العفو الدولية في العام 1986 .

 

إن جوان باييز، بصوتها الساحر والتـزامها الثابت بسلمية الاحتجاجات ومبدأ حقوق الإنسان للجميع، مثَّلت قوة هائلة للخير على مدى خمسة عقود مغنية الحرية.

 

وعلى إثر ورود خبر منحها الجائزة، قالت جوان باييز: “لقد اجتذبتني منظمة العفو الدولية بسبب مبدئها الأساسي المتمثل في أن جميع انتهاكات حقوق الإنسان والمعاناة التي تسببها غير مقبولة. وان عملية القضاء على هذه الانتهاكات، حتى لو كان ذلك يجري على شكل خطوة خطوة، إنما خلقت حركة حارَّة ومتعاطفة وغير متحزبة وذات تأثير فعال. إنني محظوظة بأن أكون جزءاً منها، وأشعر بالفخر إذ أتشرف بنيل هذه الجائزة.

 

حين عرض فيلم “ساكو وفانزيتي” في سينما سمير أميس أوائل سبعينيات القرن الماضي، خرج كثيرون وهم يسألون عن موسيقى الفيلم (وضعها أبرز مؤلفي الموسيقى التصويرية في عصرنا، الإيطالي الأصل اينيو ماركوني) ومغنيته (جوان باييز)، فالجمهور تلك الأيام، تصدق عليه عبارة “جمهور مثقف”، بل ان الفيلم كان منسجما مع أجواء الانفتاح الفكري والسياسي (اليساري) في البلاد، وهناك من شاهد الفيلم الذي غنت فيه باييز أكثر من مقطوعة تصف عذاب نيقولا ساكو (1891- 1927) وبرتولومو فانزيتي (1888- 1927)، وهما عاملان من أصول ايطالية كانا هاجرا باكراً الى الولايات المتحدة، فانخرط أولهما في التيارات الاشتراكية ثم الفوضوية بعد ان كان جمهوري النزعة أول الأمر، فيما عانق الثاني الأفكار اليسارية باكراً.. ولقد وُجّه الاتهام إلى الاثنين في العام 1920 بقتل موظفين في شركة كانا يعملان فيها. واستمرت محاكمتهما طوال ما يقرب من ثماني سنوات، تراكمت خلالها شهادات لصالحهما تبرئهما من التهمة.

 

مع أغنياتها في الفيلم، عادت جوان باييز ثانية إلى بغداد التي جاءتها صبية حائرة في العام 1951، ولكنها هذه المرة بملامح الفنانة الموسيقية والكاتبة التي سيكون اسمها لاحقا حاضرا في ذاكرة الثقافة العراقية والإنسانية، عبر نحو 20 اسطوانة، لا تزال تشع من بينها اسطوانة “الألماس والصدأ”.

 

 

إقرأ أيضا