كان واثق غازي منكسراً في مربد هذا العام. لم يكن مبتسماً كعادته حين يرانا في البصرة، لم يتحلّق حولنا كنورس وهو ينفّذ طلباتنا المزعجة الواحد تلو الآخر من دون أن يَشعر بالتعب. لم يُحضر لنا حتّى مجلته “تكست” التي كان مزهواً باصدارها. بدا واثق أرملاً ووحيداً.. مواطناً يفتقد حماية الدولة وشاعراً يفقتد حماية المثقفين.
ليس مهمّاً الآن الحديث عن “شعريّة” واثق، أو أهميته في الوسط الثقافي، ولست معنيّاً بالدفاع عنه في هذا المجال وإيراد أدلّة عن جدوى حراكه، إلا أنه كان مسؤولاً للشؤون الثقافية في اتحاد أدباء البصرة، بعد أن فاز في الانتخابات، وبعد أن استطاع، في السنوات الماضية، أن يُصدر مجلّة ثقافية من دون أن يعرضها في بازار الابتزاز السياسي، ولم يتلطِّخ بقيح الأحزاب التي تشتري الشعراء والكتاب في البصرة، ولم يدخل تحت أي مظلّة ميليشاوية. واثق كان منعزلاً، وزادت المواقف الأخيرة التي تعرّض لها من عزلته.
ما الذي حصل؟
أُقيمت جلسة في اتحاد أدباء البصرة، لدعم “الجيش” في حربه ضد تنظيم “داعش”، وأشار بعض الحضور إلى أن “البعثيين” كانوا جزءاً من سقوط الموصل، واستفحلت الكثير من القضايا الأمنية بسببهم. كان واثق يستمع إلى الجلسة، ومن ثمّ في نقاش جانبي، قال “طبّالو البعث هم السبب في كثير من مشاكل العراق الأمنية”، لم يكن هذا حديثاً جديداً، وطبّالو “البعث” والقائد “الضرورة” ما زالوا يتمشّون بيننا، متبخترين، دون أن يتجشموا عناء الاعتذار عن مدائحهم التي سطّروها على صفحات جرائد “الثورة”، و”الجمهورية”، و”القادسية”، بل أن بعضهم تسلق على أكتاف الفوضى السياسية ووصل قبّة البرلمان، وبعضهم الآخر تقلد مناصب استشارية، وإدارية، وعادوا ليسوقوا أنفسهم كأبطال من جديد.
علي الإمارة، الذي كان يطمح بمنصب رئيس اتحاد أدباء البصرة، وتسلّم لاحقاً مسؤول الشؤون المالية، وخزته كلمات واثق غازي، وشعر بتهديد يحوم على حياته. لم يُذكَر اسمه على أنه بعثي، إلا أنه أحس بأن الأمر يعنيه، (كيف؟)، هل تذكّر قصائده التي تمجّد عدي صدّام؟
ما كان من الإمارة إلا أن يلجأ إلى الحاضنة الجديدة في ظلّ غياب الدولة: العشيرة.
أرسل “كوامة” عشائرية إلى واثق، فلم يستجب، إلا أن رمي عبوة ناسفة على جيران الإمارة تسبّبت بتهجيرهم، كانت كافيّة لأن تحقق “الكوامة” هدفها. هكذا جلس شاعران وهما ينصتان إلى شيخي عشيرتين يتفاصلان في شأن من المفترض أنه شأن ثقافي، وفي الأخير: صدر القرار العشائري بالطلب من واثق تقديم استقالته من الاتحاد، وعدم الدخول إلى مبناه.
لم يكن على واثق إلا القبول، طالما أن لا دولة تحميه، بل وقفت ضدّه، فالإمارة يعمل مع حزب نافذ في البصرة، والحزب له ميليشيا، وهدد الإمارة واثق بالقانون (4 إرهاب)، عبر إتهامه برمي العبوة الصوتية أمام منزله. استغل الإمارة هنا فعلا قام به خارجون عن القانون وتسبب بتهجير عائلة من أجل مصلحته.
الغريب أن كل هذا حصل من دون أي اعتراض من وزارة الثقافة، أو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق. ارتضت الجهتان، فضلاً عن مثقفين وأدباء، أن تكونا جزءاً من المنظومة التي أرستها الأنظمة الفاسدة. ارتضت أن تُدمّرا ما تبقى من الثقافة، وأن تكونا في خيمة العشيرة التي أصبحت حاضنة للمتغوّلين والسُراق. لم يصدر بيان عن هذه الجهات، ولم تستدعِ الإمارة إلى مقرّها لتسائله عمّا حصل، وكيف ارتضى أن يحوّل خلافاً ثقافياً أو سياسياً بين أديبين إلى “مضيف” العشيرة؛ الجميع رضخ.
والمحصّلة؟
وقّع نحو 100 أديب من نحو أكثر من 300 حضروا مهرجان المربد، على بيان يُدينون فيه تصرّف الإمارة، والاستعانة بالعشيرة، وكان على رأس الموقعين رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب، وكأن عمله، ودفاعه عن الأدباء، والحفاظ على الحاضرة المدنيّة التي تحميهم، يتوقف عند التوقيع على البيان.
أما البصرة، والتي كانت إحدى أهم الحواضر المدنية في العراق، فلم يعترض الكثير من مثقفيها وكتّابها على فعلة الإمارة؛ تقبّل الجميع السلطة العشائرية التي ستكون حاضرة من الآن فصاعداً في الخلافات الثقافية، فهل وصلنا إلى قعر الانحطاط؟