صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

هاني في ذكراه الأولى من ولادته الثاني

 

كان هاني مثلي، ميساني الجذور، بغدادي الولادة. كان هو الأكثر حدةً وإصرارا بيننا، نحن مجموعته السبعة. هو لا يريد أن يكون مختلفا عن أبناء الهور الأقوياء، الذين شدَّ إليهم الرحال منذ سنوات.

 

منذ عقود خمسة، ومنذ بدايات الكفاح المسلح -ضد سلطة البعث- كان العراقيون المعارضون يتوارون في مناطق الأهوار، ومنها هور العمارة.

 

وفي الثمانينيات من القرن الفائت، عادت و جمعت هذه الأهوار عراقيين من مختلف المناطق، وكان هاني من هؤلاء العراقيين الذين هربوا من بغداد للأهوار، بعد أن شكت السلطة بأنه لم يكن مواليا لها بما فيه الكفاية!.

 

أراد هاني أن يكون أهواريا بامتياز، و أصرَّ على هذا الأمر، خصوصا، عندما كان يسمع تهكمات خشان، ذلك الكحلاوي الجريء والمتهور في اختراق الحواجز، عندما يسدّ البعثيون كل المنافذ التي تصل منها الأرزاق إلينا.

 

خشان كان لا يملّ عن مشاكسته لهاني، فهو يردد أمامه:

 

-لو يطلع أبوك و أجدادك من گبورهم ما راح تگدر (تسوق) المشحوف- فتثور ثائرة هاني.

 

 

خشان لا يريد أن ينسى كلمة (تسوق) الكلمة التي استخدمها هاني عندما طلبَ من خشان عند دخوله للهور أن يعلمه سياقة المشحوف. وكان جواب خشان وقتها:

 

-ها خويه أبو حياة خير سالمين، شني عدنا لوريّآت تشتغل على خط عمارة/ بغداد، وتريد تضبط سياقتك- فأحسَّ هاني أنه استخدمَ المفردة الخطأ وأنها ستتحول وبالاً تهكميا عليه.

 

لم تفترْ همة هاني عن: تعلم كيفية (دفع) المشحوف بالغراريف؛ ليعُبَّ بعدها بمشحوفه -كما كان يحلم ويُرغبَ النفس- برگتي: أبو عذبة، وأم النعاج الهائجة مع كل نسمة هواء  تهب على الهور. أم النعاج كانت تجبر كل من يعيش على ضفافها أن يتماهى  معها وينظر لها باستمرار، فهي تبعث الأمل في النفس؛ لسعتها و لضخامة أمواجها، خصوصا في الشتاء. سعود صديقي ورفيق هاني وابن خالته كان يردد: إن أم النعاج في ليالي الشتاء تكون كـ راقصة باليه جميلة، تؤدي رقصتها لك وحدك ، وأنت لا ترغب بأن يرف لك جفن، حتى لا تغيب عن ناظريك أي حركة من حركاتها الرشيقة.

 

لم نسلم، سعود وأنا، من السير مع رغبات أبي حياة. رغبات أبي حياة: أن يكون قويا وعارفا بكل قوانين ودهاليز العيش داخل الأهوار، و بحكم أننا أبناء مدينته -الثورة- و تربطنا معه أيضا قرابات متعددة، فكان يُحمسَ في نفوسنا النخوة؛ لنكون عونا له، لا عونا عليه مع خشان وباقي المجموعة، التي تتحين به الفرص للإيقاع به وهو يتنمر عليهم بـ: تمكنه من دهاليز المكان وفنون العيش الصعب فيه.

 

كانت خبرتنا، سعود وأنا، لا تختلف كثيرا عن خبرة هاني بركوب المشاحيف الصغيرة ودفعها بالغراريف وسط البحيرات -الشبه عميقة- داخل الهور، خصوصا في بركَة أم النعاج، لكن مع إصرار هاني وتطلعنا و أملنا نحن أيضا بأن يحقق هاني رغبته في ‘سياقة’ مشحوفه وسط هذه البرگة الرائعة، كنا نُذعن للصعود معه في مشحوفه ومساعدته على توجيه حركته. في أغلب المرات يكون مصيرنا راكسين في الماء، لـ نرجع بعدها نتوسل خشان من أجل اخراج المشحوف الغاطس على عمق ثلاثة أو أربعة امتار تحت الماء، لكن خشان لا يقبل إلا أن يكون هذا الطلب مقدم مباشرة من هاني، لتبدأ معها متعة المشاكسة و التصنيف.

 

لم تتوقف رغبات هاني -التي تحققَ أغلبها مع  مرور الوقت- عند حد الدفع بالمشحوف، فقد فاجأنا يوما، سعود وأنا، بمهمة، وهذه المهمة تكون عادة عادية، إذا كانت بمعية أبناء الهور الأصليين الأشداء.

 

كنا جالسين صباحا على أطراف الچباشة نستمتع بشمس الشتاء الذهبية، سعود يقرأ رواية ماركيز (مائة عام من العزلة) التي جلبها لنا حامد عند ذهابه لبغداد مع كتب أخرى.  وأنا أستمع من مسجلنا الصغير أغنية (دكتور) للمطرب عبادي العماري، وإذا بهاني يصيح علينا:

 

-يالله حضروا نفسكم، خلي نطلع اليوم طلعة تساعدنا شلون نعتمد على نفسنا إذا فد يوم صار علينا هجوم وتفرّقنا عن جماعتنا-

 

-يا ربي دخليك – صاح سعود – ها خويه ابو حياة شنو الدولاب الجديد اللي طلع براسك اليوم-

 

رد هاني: -شنو دولاب، يعني لا سامح الله إذا فد يوم تفرقنا عن خشان والجماعة، شلون راح ناكل، شلون راح نعيش، غير لازم نتعلم شلون نمشي امورنا لوحدنا-

 

بعدها مازحته أنا:- شنو هاي الطلعة الي تتوقف عليها عشيتنا حبيب گلبي أبو حيوته الورد-

 

  • الطلعة وهو يرمقني بطرف عينه: نروح لـ برگة الشويّب و ناخذ ويانا الحاجات الثمانية المعتادة (طحين تمن، چاي، قوري، چدر، فالة، لوكس، جداحات، منجل) وسلاحنا ويانا، ونبات هناك يوم، يومين. وداعتكم، أنا مو هاني إذا ما خلينا خشان يلطم من تنجح طلعتنا- وبعد أخذٍ و رد،  قبلنا أن نذهب معه لأداء هذه المهمة.

 

حملنا أشياءَنا الثمانية للمشحوف مع ثلاث بطانيات تقينا برد الهور اللذيذ ليلا، و ركبنا. هاني في المقدمة مع غرافته وسعود جالس في الوسط مع رواية مائة عام من العزلة -أصرَّ أن يكملها دون انقطاع- وأنا في مؤخرة المشحوف مع غرافتي، وما أن شرعنا بالغرف وإذا بخشان يصيح علينا:

 

-أخوتي ‘سوقوا’ زين، واخبزوا الطحينات مو تاكلونهن نيات إذا ما حصلتوا سمجات- ضحكنا كلنا. دعا لنا خشان وباقي الرفاق بسلامة الذهاب والإياب.

 

انطلقنا في السبل المائي الذي يحفه القصب من جانبيه. هذه الجوانب تجعلنا بمأمن إذا ما حدث أي طارئ، خصوصا، عند تحليق الطائرات المفاجئ، و التي تقصف مباشرة كل ما تراه متحركا في هذا الهور الشاسع.

 

غرفنا أنا وهاني، وسعود مستغرق في عالم روايته.. إلى أن وصلنا مع بداية غروب الشمس إلى أطراف برگة الشويّب، بدأنا بسرعة بتحديد المكان المناسب حتى نستطيع تعمير چباشة، نريح عليها أجسادنا ليلا. اخترنا المكان وأخذنا نكسر القصب ونثنيه ونشابكه من أطراف الچباشة، من دون أن نقطعه. بعدها أخذنا نحش قصبا من أطراف أخرى، ونطشه على الجباشة، حتى نرفع مستواها عن الماء، وهذا يجعلنا نستطيع النوم عليها بدون أن يمسنا الماء. و فور إنتهائنا من الجباشة وإنزال جزءا من الحاجات، صاح هاني وقد دخل المساء:

 

-يالله منو يجي يدفع لي البلم حتى نطلع لنا سمجات للعشا-

 

أنا صحت: -يالله سعود گوم مع خالك  وطلّعونا سمجات-

 

سعود: -العب غيرها بعد اخوك، الخال خالك، و أنت روح وياه، أنا أظل هنا

 

اعجن الرصاعات و احش گصب يابس لـ شوي السمچات وخبز الرصاعات

 

وتخدير الچاي. هذا إذا حصلتوا سمچات اليوم- وصاح مستدركا:

 

  • مو اتعبون نفسكم اذا ما تحصلون شي، عندنا چاي ورصاع وهذا يكفي- وختم:

 

-بس كون الله يرجعنا باچر سالمين-

 

أخذتُ أدفع المشحوف، وهاني أخذ يجهز فالته ويشعل اللوكس، وبعد أن أكمل تجهيزهما لوحَ لي بالتوجه لمنطقة محصورة بالقصب من ثلاث جهات، وهذه الأماكن عادة ما تكون مناسبة لنوم الأسماك ليلا، فهي تكون دافئة أكثر من المناطق المفتوحة والتي فيها جريان سريع للماء. أخذتُ أدفع المشحوف بهدوء، وهاني يبحلق جيدا في الماء المكشوف لنا من خلال ضوء اللوكس المنصوب على عنق البلم الأمامي، والمسلط على الماء. هاني يهمسُ لي:

 

  • لا تتنفس-

 

خير تريد تسودني،  شنو ما اتنفس. همسَ مرة أخرى:

 

  • اش.. السمج خير من الله هنا- فقلتُ له: -إن شاء الله ما تسودن السمج بهـ الليل وتخليه يهج بالبراري- فضحك ضحكة قوية- كادت أن تفسد علينا كل تعبنا وتضيع فرحتنا بهذا المكان المملوء بالسمك.

 

أخذ هاني يستعد، وقد شخّصَ سمكته التي سينالها بفالته. صاح بصوت خفيض: -يالله- و رمى فالته.

 

وصاح مرة أخرى وصوته لا يريد أن يخرج من فمه:

 

-وعلي لحته، گطان معدل-

 

بقينا بعدها ساعة، استطاع هاني فيها أن يصطاد گطانا آخر، فقد هاجت الأسماك بعد الرمية الأولى بسبب حركتنا وفرحتنا، ولهذا جاء الگطان الثاني بعد أن طلعت ارواحنا. رجعنا إلى سعود، وهاني يدندن بصوت جميل أغنية -مشحوفنه طر الهور، الماطور، يسبگ بمشيه الماطور..-

 

سعود بعد أن ذهبنا من عنده، هيأَ المكان، و حشَّ القصب اليابس (الرباخ) وحوله إلى مشعل طويل يكفي لـ شوي سمكة. سمكة واحدة تكفينا، وهيأَ أيضا ثلاث رصاعات من خبز التمن، وأعد قوريه.

 

أخذ هادي السمكة الأولى فشقها بالمنجل. صاح سعود:

 

  • ليش ما شگيت السمچة الثانية، مو أكبر؟-

 

هاني: – لا الأولى مضروبة بالفالة من بطنها- و الصيد بهذا الشكل يعد خللا، ويكشف أن الصياد ليس أبو مصلحة وغير ماهر بالصيد، ولهذا ترك هاني السمكة الثانية، لنأخذها معنا صباحا إلى جماعتنا، و لتكون دليلا  لـ خشان، بأن أبي حياة قد أنجز مهمته على أكمل وجه، ولهذا اختار هاني الإبقاء على السمكة الثانية فهي كانت مضروبة بظهرها بشكل شبه لائق!. وتددل على أن صائدها محترف أو في طريقه نحو الاحتراف!.

 

بعد أن صلينا وتعشينا وشربنا شاينا، أخذ هاني يتأوَّه مواجعه، التي تحل عليه ليلا، فهو حزين جدا على زوجته التي عذبها معه وعلى أخيه. زوجته وأخوه مجبران أن يحضرا كل أربعين يوما أمام  أمن الثورة الكائن في حي جميلة. هاني يكرر، بأنه لا يعرف كيف يجازي أخيه خيون الذي تكفل به بعد موت أبيهما، وتكفلَّ بزوجته بعد هروبه. كان هاني لا يتذكر من أبيه إلا ملامحه وابتسامته الجميلة. مرة قلتُ لهاني: دعنا نأتي بزوجتك، وتذهب بعدها أنت وإياها إلى إيران وتعيشان هناك. رد عليَّ بأنه لا يستطيع، فأخوه قد وقَّعَ أمام الأمن بأن يكون هو المسؤول أمامهم، إذا ما هربت زوجته، وأخوه صاحب عائلة كبيرة، وهو لا يستطيع أن يجازف بمصير أخيه!.

 

حاولنا، ونحن متدثرون بأغطيتنا على سطح جبشاتنا التي أن نواسي هاني، ونردد اسطوانتنا  المكررة: بأن البعثيين  زائلون لا محالة!.

 

عدنا في اليوم الثاني إلى جماعتنا ومقرنا، ونحن نحمل معنا دليل النصر المؤزر (الگطان) الذي سيُسكت به هاني خشان.

 

استقبلنا خشان وصاح بنا وقبل أن يرى الگطان:

 

-عمي والله أدري بيكم خوش زلم، بس أنا أحب اتكشمر ويه ابو  حويته-

 

لم استمر أنا طويلا مع احبتي هؤلاء، فقد انتقلتُ بعدها بسنة إلى كردستان،

 

وأخذتْ مجموعة أبي حياة بعد الانتفاضة الشعبية في عام 1991 تتوسع وتكبر

 

إلى فترة تجفيف الأهوار، الذي شرع به البعثيون بعد الانتفاضة، بعدها تشتت الجمع، لكن أبا حياة ومعه مجموعته الصغيرة أصرَّوا على البقاء داخل العراق، و أخذوا  يتنقلون في كل مناطق الهور السابق من العمارة إلى الناصرية، بعد أن تحولت هذه الأهوار إلى أراضي يابسة، و مغطاة بنبات  الزور العالي جدا، والذي تحول فيما بعد لمعضلة جديدة تؤرق البعثيين، فهو أصبح مكانا مناسبا -وإنْ لم يكن بحجم الهور- لتواجد معارضي نظام البعث من جديد!.

 

أخذتْ أخبار هاني وسعود وخشان وباقي المجموعة تكون شحيحة الوصول إليَّ، فقد انتقلتُ أنا للعيش في سويسرا سنة 1996 وهذا ما جعل أخبارهم لا تصلني بانتظام، إلى أن أُحتل العراق وسقط نظام البعث سنة 2003، وقتها استطعتُ أن أذهب للعراق عن طريق سوريا، فسألت عن هاني وباقي المجموعة.

 

هاني قد ترك بغداد، فهي لم ترق له. انتقل هو و زوجته إلى ميسان، وعاد لمهنته، معلما في قرية الجديد التي تقع تقريبا على تخوم الهور في ناحية المشرح. ذهبتُ إليه هناك، و أصرَّ -وأنا في زيارتي السريعة إليه- إلا أن يأخذني على متن مشحوفه بجولة سريعة على بقايا هور لا يريد أن يبرح مكانه، بعد أن شُحت عليه كميات المياه المتدفقة من إيران وتركيا، لم ينجب هاني وزوجته طفلا، وقد كان يُمنّي النفس بطفل. مازحته و قلت له: لماذا لا تتزوج مرة أخرى، بعد أن قارب عمر زوجتك سن عدم الإنجاب، فأجابني:

 

-أنا لم ولن أُفكر بهذا الأمر مطلقا، فهل يعقل أن أُجازي أم حياة بعد تعبها وعذابها معي، بالزواج عليها. هذا شيء مستحيل ولا أتحمل حتى التفكير به-

 

كنتُ بعد هاني أروم الذهاب إلى خشان، فقد سمعت أنه انتقل للعيش في مدينة القرنة، لكن هاني قال لي: لا يمكنك الذهاب إليه، فقد قُتل خشان في نزاع عشائري، لم يكن له فيه لا ناقة ولا جمل. قُتل لمجرد أنه من عشيرة أحد المتخاصمين!! وقد أخبرني هاني أنه ذهب إلى فاتحة خشان وبقي فيها ثلاثة أيام. لم استطع أن أرى سعود فقد كان في إيران لترتيب نقل زوجته وطفليه، فقد استطاع سعود أن يكوّن أسرة بعد خروجي لسويسرا. منيت النفس أن أراه في زيارتي المقبلة، لكن هذا لم يحصل، فقد قُتل سعود أمام بيته في مدينة الثورة؛ لأنه لم يرق للمتدينين الجدد، فهو كان أكثر تحررا وانفتاحا بتدينه وتوجهاته السياسية.

 

كتبتُ هذه القصاصة لأُحيي بها حزني على خشان وسعود، وهاني الذي تحل اليوم ذكراه الأولى من ولادته الثانية، فقد أُستشهد هاني وهو يحاول إنقاذ عائلة كانت عالقة في شط الفرات، بعدما حاولت الهرب من المعارك التي كانت دائرة في محافظة الأنبار سنة 2015.

 

إقرأ أيضا