صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

صوت فيروز وتأثيراته التنويرية في مسارات حياتنا

 “بعض الأصوات سفينة وبعضها شاطئ وبعضها منارة وصوت فيروز هو السفينة والشاطىء والمنارة”.
                                                                                                                                   أنسي الحاج

 

 

أمام سطوة الاحساس الجمالي لصوت السيدة فيروز تبدأ الحياة في مساراتها وانعطافاتها وتقاطعاتها المتنوعة.. ومن خلال صوت فيروز تصبح الكلمات والمعاني والدلالات نغما جماليا مفتوحا وممزوجا مع شهقة هذه الآلة الموسيقية أو تلك .. صوت فيروز لم يكن إلا نصا شعريا باذخا مطابقا لحنجرتها الذهبية ولأسلوبها في الغناء أو احساسها المغاير.

 

أتذكر أن قلق مراهقتي كان ممزوجاً بصوت فيروز وكلمات جبران خليل جبران، ولأن التعبير الجبراني معقد، كان يستلزم وعياً معقداً، لم أكن امتلكه في تلك الفترة، ولأن العلاقة مع الأغنية أسهل وأرحب من العلاقة مع الأدب المكتوب عموماً، لذلك بقي صوت فيروز القادر على رسم أفق أوسع وأرحب وأعذب لعلاقتي معه ولم أكن أعرف أن ذلك الامتزاج الروحي كان تعويضاً عن الخسارات أو الاحباطات المبكرة لتلك المراهقة في مجتمع مقموع سياسياً وثقافياً، يومها كان تكويني الفكري والثقافي، الأخلاقي والسلوكي يتماثل مع ذلك العالم الغامض والغريب الذي تقوله وتجسده الأغنية الفيروزية وأكثر الأحيان كان يمتثل له امتثالاً متعففاً مستمداً مادة أحلامه وأشجانه وتطلعاته الأخرى من تلك الأجواء السحرية التي يرسمها ويلونها صوت فيروز واختيارات الرحابنة الشعرية، ودائماً كان يراودني طموح أن أعيش ذلك العالم وأن أنشئ علاقاتي الإنسانية على طريقته ولكنني قليلاً ما أتذكر أن هذه الأحلام والتصورات قد تخطت الطموح ولامست قشرة الواقع، وفي مثل هذه الحالات ورغم الاحباطات المتكررة كنت أغرق عميقاً في عالم لا ألمسه ولا أراه إلا ضبابياً ولكنني كنت أشعر بنشوة غريبة ممزوجة بالألم والرغبة وبحس يشبه الرعشات الصوفية وكثيراً ما كنت أضع هذه الرعشات موضع التساؤل، رغم حالات الاكتئاب التي كثيراً ما كانت تقتحمني أو تنتابني وتزداد لذتي بها كلما تكررت وكلما أوغلت في التأمل الجمالي والأسئلة والمعرفة .

 

أحياناً كنت أندفع نحو تجاوز عالمي الداخلي الذي كانت تنسجه وترسخ علاقاته المتشعبة المتداخلة أجواء الأغنية الفيروزية، أندفع تحت إلحاح العلاقات العينية الملموسة بالواقع المحيط بنا، ولكن تبعاً لهامشية هذه العلاقة ولابتعادها عن نسيج علاقات العالم الفيروزي ولعدم وجود فسحات أو ممرات أو زوايا في واقعي الحياتي العراقي تسهل وتنمي هذه الاندفاعات، نتيجة لهذا كله، لم أتمكن من صياغة هذه العلاقة بالواقع العراقي، في ذلك الوقت، صياغة تلاؤمية لذلك لم أعد أرى وألمس من هذا الواقع إلا ألوانه الشاحبة ومن ثم أعمم هذه الألوان على مجمل التفاصيل الحياتية الملموسة والحسية، الثقافية والسياسية لكي أتراجع نحو حياة محورها المونولوج الداخلي الذاتي داخل أطر وأجواء عالم الأغنية الفيروزية، ولكن محاولاتي في مماثلة سلوكي مع هذا العالم لم تكف أبداً، إنما بين فترة وأخرى أو بين أغنية وأخرى كنت أشعر بتغيير في طريقة هذه المماثلة وهنا كنت أزداد انجذاباً ورغبة وتعالياً وصمتاً وارتداداً نحو الداخل وأعني نحو المونولوج الذاتي الذي كان يعوضني عن الانقطاع القسري بيني وبين العالم الواقعي الذي كان يتحرك من حولي ويفاجئني بغربتي المبكرة، حينها كنت أيأس من العراق ومن حلمي وأفكاري وعلاقاتي المتنوعة، ولكن حس التعالي كان ينجدني في الوقت المناسب ليعيد إلى سلوكي توازنه وهدوءه وديمومته، ولكن هذا الهدوء كان كاذباً لأنه لا يضبط الانفجار الداخلي المتكرر بل يمنع أمكانية حدوثه في الخارج، يمنع حدوثه على غير مرأى ومسمع الذات.

 

إن صوت فيروز لا يتطلب سوى تحريك المخيلة على الضفتين المتصلتين بالأغنية: اللحن والكلمة وما ينتج عن ذلك فإنه يأتي في ما بعد وأعني كيفية التعاطي مع صوتها بالنسبة للمستمع ومن هنا أيضا يتمكن الصوت من إقناع المستمع بأنه إزاء لحن أو نص قادر على النفاذ إلى النفس.

 

ثمة سؤال: ما الذي يجعل العلاقة بصوت فيروز واختيارات الرحابنة الشعرية تتم على هذه الطريقة والصورة؟ نقول، هذه العلاقة التي تحدثنا عنها لا يمكن أن تكون من تشكيل الاتصال بعالم فني/ جمالي يرسمه الشعر والصوت، ولكن هذه العلاقات المتداخلة تكشف طريقة تواصل أو اتصال، في ظروف اجتماعية محددة، بالعالم الفيروزي، أي أن هذه الظروف الاجتماعية هي الإطار الذي يحدد طبيعة هذه العلاقة . ولربما تكون قيم أو علاقات العالم، الذي كنا نعيشه، مختلفة عن القيم والعلاقات التي ترسمها الأغنية الفيروزية، من هنا أيضاً يأتي توق هذا المتلقي المنعزل والمعزول إلى التماثل مع هذا العالم الجديد الذي تحدده أو تعيد صياغته نبرة صوت فيروز ورنّة المفردة الشعرية.

 

مع صوت فيروز نشعر أكثر من أي وقت مضى أن الزمن في صالحنا…

 

إقرأ أيضا