لو أمطرت السماء حرية

كانت النفس البشرية تشكل لي هاجسا دائما بتناقضاتها التي لا تنتهي وبنزعاتها التي كنت وما أزال أحاول فهمها. بحر عميق مليء بالغموض أيقنت انه لا سبيل لسبر أغواره المظلمة.

كثيرة هي الأسئلة التي تغزو عقلي حول هذه البقعة التي ولدت عليها وكبرت وأنا اسميها وطن. حملته جرحا في الروح وخفت عليه دوماً كذلك الجنين الذي كان اسمه موسى وكان فرعون يخاف ولادته وفارقته وأنا ارميه في يم الخطر وقلبي كان كقلب أم موسى يملؤه اليقين انه سينجو حتى إن التقطه السراق والفاسدون.

متى؟ كيف؟ وكثيرا جدا أتساءل بفزع وغضب وألم \”ليش ليش ليش؟\” وأوجعها حين تنبع من خيبة أمل.

أمنت وما أزال بحلمي بنجاتك يوما يا وطني، وحلمت وما أزال بغد أجمل لأطفالك وتجرعت مرارة حقيقة تقول إن جيل آبائنا الذي اعترض وقاوم الطغاة حيناً انتهى إلى الموت في غياهب السجون أو الحروب أو الاستسلام لواقع ما عاد بالإمكان تغييره حتى اعتادوا سكوتهم وخيباتهم. وان جيلي هذا الذي قضى طفولته في سبعينيات قلقة ومراهقته في ثمانينيات الدم والموت وعشرينيات شبابه في حصار وحرمان ما زالت آثاره غصة في الروح، ولا يزال اليوم وهو على أعتاب أربعينياته قلقا يحاول التمسك ببقايا أمل ويحلم أن يعيش سنوات آمنة تفضي إلى مستقبل أجمل إن لم يكن له فلأبنائه عله يجد فيهم تعويضا له عن حياة سرقها سراق الوطن وقتلته، حياة كان يستحق أن يحياها.

وجيل هو اليوم جيل الشباب هذا الذي ولد في رحم الحروب وانتهك الحرمان براءة طفولته ولكنه امسك بأطراف الحلم يوم سقط الطاغية واستبشرنا لهذا الجيل فجراً سيشرق وشمس حرية ستولد ووطن سيبنى ومستقبلاً سيفتح ذراعيه لهم بسرور.

ولن أتكلم عن جيل يولد الآن على صوت المفخخات ومناظر الدم والأطراف المقطوعة والحزن الذي عشش في البيوت، فلهذا الجيل حديث آخر تماما.

العراق ينتفض.. عنوان اختاره ثلة من شباب ما زالوا في مقتبل العمر. عنوان يلامس جراحنا ويداعب آمالنا المنهكة وأمنياتنا التي باتت ضالة في هذا الجنون. ثلة من الشباب ربما كانوا أوفر حظاً من أترابهم إذ هم في غالبيتهم طلبة أو أطباء وأطباء أسنان ومهندسون حديثو التخرج يفكرون في وطنهم وحياتهم ومستقبلهم الذي لا يبدو بخير، استفزهم مسلسل القتل اليومي بدماء باردة والموت الذي لم يعد يشعر بالخجل من إقامته الدائمة على ارض الرافدين ففي كل يوم نودع صديقا أو نفقد حبيبا أو ننظر بحسرة لقريب معاق وجارة ترملت وأيتام يسكن الحزن أعينهم. شباب قرروا أن يمارسوا حقا لهم يسنه قانون الحياة والدفاع عن النفس حتى في قوانين الغابة، فمن الجبن أن تنتظر الموت مطأطئ الرأس وان كان لابد من الموت فلنمت ونحن نحاول الدفاع عن أنفسنا أولسنا شعب تحكمه سلطة تردد علنا إيمانها بمقولة سيد الشهداء الحسين ع (هيهات منا الذلة)؟! 

ألسنا شعب اعتدنا الفخر بماضينا وأنفسنا وقصص جداتنا عن بطولات خارقة حتى لقطاع الطرق وشهامة مؤثرة حتى لحرامي المحلة وغيرة أهل الطرف على بعضهم؟! 

\”العراق ينتفض\” عنوان صفحتهم على الفيسبوك التي تزايدت أعداد المنضمين لها بسرعة كبيرة وأنا من ضمنهم إذ وجدت في دعوة هؤلاء الوجوه الجديدة من الشباب للتظاهر إشراقة أمل جديد. راقبتهم لأيام .. علقت على منشوراتهم.. تابعتهم بدقة.. تقريبا كنت اقرأ كل التعليقات حتى ساعة متأخرة من ليلة الجمعة التي حددوها لتظاهرتهم.. نصحتهم أن يستفيدوا من أخطاء من سبقوهم.. أن يعلنوا عن أسمائهم بصراحة.. ألا يخافوا من صوتهم فهم يمتلؤون بحب العراق.. كانوا كما يبدو لا ينتمون لأيدلوجية معينة ولا متعصبين لحزب أو طائفة غير حقهم بحياة أفضل.

فليس غريبا أن ينبري بعض الشباب للدفاع عن نفسه ويدعو للتظاهر مستنجدا لوقف هذا النزيف، فمن الشباب والطلبة يجب أن يبدأ التغيير.

وليس غريبا تصرف السلطة وقواتنا الباسلة دوما على شعبها، فالجيش والشرطة والحكومة على رأسهم يبدو أنهم ورثوا من سبقهم من الطغاة إذ لا يحترمون إلا كل من يهدد بالسلاح والقتل علنا ومن لا يخجل من تهديد الآخرين ولا يستحي من ارتباطه بدول خارجية (الشرقية منها والغربية)، كذلك أثبتت قواتنا الباسلة أنها على استعداد تام لتأمين وحماية كل من يحمل صوراً لكل من أسهم في قتل العراقيين كصور صدام أو الخميني.. ومن يهتف (قادمون يا بغداد) أو (قادمون يا قدس) أو حتى (قادمون يا موزمبيق) وانهم يبذلون قصارى جهدهم للسهر على راحة كل إرهابي يفخخ سيارة أو يتفاخر بذبح (چم عراقي) وانهم سيبقون دوماً العين الساهرة على راحة هؤلاء القتلة خلال فترة استجمامهم في السجون المكيفة حتى إطلاق سراحهم وعودتهم الميمونة إلى أحضان حواضنهم.

هذا وقد أقسم أبطالنا الأشاوس أن يجابهوا كل متظاهر أعزل بـ150 مجندا، لذا حشدوا 15000 عنصر أمني ليحاصروا 100 شاب أعزل يحملون علم العراق وان يتعاونوا عليهم تحت شعار (داروا أخوكم) ليتم اعتقالهم وإضرام النار في قلوب أمهاتهم ومحبيهم وقلب الوطن الذي بات عليلا في غرفة الإنعاش يسمع ويتألم ولا يقوى على تحريك إصبع ليقول انني ما زلت على قيد الحياة.

هذا الأسلوب البعثي القميء الذي كان يبدأ بـ(تفضل ويانا عدنة كم سؤال شوية وترجع) وأكثر هذه الـ(شوية) أصبحت أبدية ضاعت في غياهب الزمن. 

شكرا أيها الأشاوس وشكرا لرئيس الوزراء وشكرا لمن أصدر أوامر الضرب والاعتقال دون أن يبلغ القائد العام (حسب قول أبي إسراء) فهذا يدل إما على ثقة تامة برضا القائد العام عن هذه الأوامر أو على أننا وطن (كلمن بكيفه) وانه لا احترام ولا قيمة ولا قدر لرئيس الوزراء والقائد العام والـ والـ كثيرات ألقابك سيدي، وأنا منذ صغري كرهت تعدد ألقاب القائد الضرورة.

وشكرا لكثير من دعاة الحرية والناشطين والمثقفين والمتثاقفين على ما صدعوا به رؤوسنا في الفضائيات والصحف وصفحات الفيسبوك والحملات ونشاطات شارع المتنبي لكنهم خذلوا 100 شاب أعزل إلا من حب الحياة. 

للسلطة أقول: ليس زمن صدام ببعيد فاعتبروا.

وللمجعجعين ممن خذلوا الشباب أقول: كونوا أكثر صدقا مع أنفسكم 

وللذين ولدوا أحرارا من هذا الشعب وهم ليسوا إلا عبيدا أقول لكم ما قاله أفلاطون \”إن أمطرت السماء حرية فستجد بعض العبيد يحملون المظلات\”.

* أكاديمية وناشطة عراقية مقيمة في لندن

إقرأ أيضا