ديوان الغجر: الخروج من ربقة الأعراف ولوثة التقاليد

هناك ملائكة قليلة تغني

هناك كلاب قليلة تنبح

يسقط ألف كمان في راحة يدي ..

فدريكو غارسيا لوركا

 

1

القارئ لديوان الغجر (أغاني غجر يوغوسلافيا) ستختلط عليه الرؤى الفنية، حيث أنه سيقرأ الشعر ويتذوقه وستتداخل المعاني والمواقف والدلالات والتعابير، ومن هنا نجد المترجم لهذا الكتاب، الشاعر جمال جمعة، يترجم النص بفنيته الشعرية وبأسلوبه المتفرد، فنجد لكل من الغجر والغجري معنى يختلف عمّا ألفناه، حيث يعطيهما المترجم أبعاداً جديدة لتعبر عن غايته الرمزية وتفنيد الانطباعات التقليدية السائدة التي تكبل الرؤية النقدية المجردة المتعلقة بماهية الغجر.

يترجم جمال جمعة أسطورة الغجري القلق، وقد توحي كلمة الأسطورة، هنا في هذه القراءة، بارتباك أكيد ذلك أنها ترد إلى بطولة لا تاريخ لها، بشكل عام، غير أن للأسطورة، المتعلقة بالشعر، منطقها الذي يحول التاريخي إلى لا تاريخي، فالغجري، وقد تأسطر، يعيش زمنه التاريخي بشكل لا تاريخ فيه وهذه المفارقة هي التي تدرج مختارات هذا الديوان (ديوان الغجر) في أدب الفقد والترحل والاكتشاف والبحث عن الهوية وتجعل من غجريته نسيجاً أسطورياً لا وقائع فيه أو أمكنة محددة فتكون القصيدة الشعرية نظيراً للفردوس المفقود، ولقد كان بالإمكان قراءة (ديوان الغجر) كقصيدة طويلة واحدة وازعها الحياة والجمال والحرية والمكان المفقود، غير أن إمحاء المسافة بين القصيدة والشاعر، المعنى والدلالة أو الغجري وطبائعه يلغي هذا الاحتمال وينبذه، فالمعنى واضح ولا التباس فيه والدلالة واضحة هي الأخرى لا تحتاج غيرها ولا تتوسل تفسيراً عابراً يسعفها، إذ يحل الغجري متاعبه وحيداً، من خلال الشعر، ويعثر في وحدته، أعني قصيدته أو أغنيته، على حل لمتاعب الغجريين، وعبر حيز التعب سيبحث الغجري على أمكنة أو إشارات تتدثر بالدفء مثلما تتلفع بالجمال والطبيعة والألم النبيل ولتكتمل من خلال هذه الأمكنة أو الإشارات دائرة الرحلة ويكتمل فيها، تباعاً، مسار الاختيار.

الغجري أصل ذاته، وثبات الأصل يعطيه التحرر، لا تصوغه الآثار الايجابية أو السلبية على حد سواء، بقدر ما يصوغ الآثار الايجابية/السلبية فمن كان أصل ذاته كان أصلاً لما يتلوها، الذات  الأصل خلق، والخالق يخلق ما عداه، إليه تأتي الأشياء ولا يذهب إليها ولهذا يُعيد (ديوان الغجر)، بكل نصوصه، خلق المصائر، يهدم ويبني ويغني ويرقص ويهجو ولا تعنيه التقاليد المغلقة والأعراف، في مدار الذات  الأصل تنحل الأسئلة وتتساوى الإجابات، المتعلقة بالغجر، طالما أن الأصل يخلق المرايا التي تعكس صورة الغجري، وهذا الأخير حر لأن أسلوبه، في الحياة، يسعفه على التحرر أو لأن التحرر محايث للأصل المكتمل بالحرية أو بالنظرة الجديدة، المنقوصة بعض الشيء، ففي العقود الأخيرة حسب تعبير الكاتب جمال حيدر (بدأت تتغير النظرة إلى الغجر في عدد من بلدان العالم وإن بقيت على حالها في العالم العربي).

يحيل اختزال المعاني، في هذا الديوان، إلى عبارات شعرية مكتملة على فنية مجردة، غير ان تقرّي مسار المترجم يحيل على المعنى، من جديد، قبل أن يستدعي تصوراً لغوياً متماهياً مع الصورة الجمالية في تلك العبارات، فمعنى النص يحتضن الدلالة قبل أن يجسدها شكلاً لغوياً يحول الوقائع والتفاصيل والمواقف والتجارب إلى صور ذهنية، وقد يكون للغجري صور متعددة ينسجها البعض من نثار الحكايات ويبنيها البعض بتحريض قوامه حياة الغجر ويكتبها بعض ثالث نصاً شعرياً باذخ الجمال كما هو الحال مع نصوص (قصائد غجرية) للشاعر الاسباني لوركا الصادرة عام 1928، ويتضمن ديوان الغجر (أغاني غجر يوغوسلافيا) أيضاً الكثير من النصوص التي تتحدث عن الاغتراب، وهذا الأخير بمعناه الشعري، مواجهة بين فرد يسعى إلى التحقق ومجتمع يهزمه ويفتت فرديته وهويته وطقوسه وطبائعه، ثمة نصوص ترصد الزمن، راهناً ومستقبلاً، إذ ينقب الغجري في الراهن عن زمن أضاعه ويبحث في المستقبل عن زمن لم يعثر عليه ويعيش في الحالين نقصاً وضياعاً ونستطيع تلمس ما ذهبنا إليه في هذا المقطع من القصيدة المعنونة أمنية: (ولو انني فقط كنت خفاشاً لأقمت في أحد البيوت). ثمة نصوص تبدو وكأنها محاولة للإجابة عن سؤال الانتماء والخيبة، الانتماء من أجل تحديد المكان الذي يبرر الطمأنينة حيناً ويسيِّج الذات من قلق المجهول غالباً، وكأن بعض النصوص تفتح الغازها لقراءة خاصة بها، قراءة تتجاوز المعنى نحو الدلالة والسكون إلى حركة الحياة الكامنة في الذات، لنتأمل هذه الالتقاطات المختارة من الديوان: (رجل مرح: لقد سرت طوال الطريق/طوال طريق مقفر/لم أصادف شاباً ولا فارساً ذا شاربين/لا أحد بين السماء والأرض)، (خذ كأساً يا ربّ: اهبط إلى لأرض يا ربّ/ وأرِ الناس شيئاً من الرحمة/من السماء لا تستطيع أن ترى ما أراه على الأرض).

 

2

تأخذ كلمة أو مشكلة الغجر أبعاداً أعمق من أن يحيط بها المعنى، أكان تاريخياً أم اصطلاحياً، وقد أشار المترجم في مقدمته: (كلمة الغجر لم تكن اصطلاحاً انثربولوجيّاً يُطلق لتشخيص مجموعة بشرية لها خصائصها العرقية والثقافية بل كلمة سحرية يقترن رنينها بأشدّ حالات الجمال وحشية).. إذن، كلمة الغجر هي أشبه بميدان الغجري لممارسة وعيه الحاد بأزمة العالم المحيط به لا بأزمة انتمائه الشخصي ذاته، ومن هنا يمكننا القول أن نقطة انطلاق الغجري هي وجوده القلق في وجود أكثر قلقاً، ولأن سؤاله عن الانتماء/الخيبة معلق بين فضاءين: تاريخية الغجر، ومرجعية المعنى إضافة لأسئلة الجوهرية المتعلقة به، وهي أسئلة مثقلة بالرغبات المتناقضة والمتحررة والمتشابكة، وحكماً، بالمعايير الأخلاقية والثقافية والسياسية أيضاً، لنصغي إلى هذا الجزء من القصيدة المعنونة: (الخريف يقيم العرس: لا أستطيع أن أمرَّ عبر القرى بسلام/عرسٌ بعد عرسٍ/أوه كم يقيم الخريف الأعراس) وكذلك في هذه القصيدة المعنونة: (الغجر السعداء: لقد سرت وسرت على امتداد طرق طويلة/لاقيت غجراً سعداء/أوه أيها الغجر آه يا رب آه يا شباب/قفوا وقولوا لي الحقيقة: ماذا سأفعل؟ إلى أين أمضي؟ كيف يمكنني أن أكون سعيداً؟).

الغجري، في أغانيه، يشتهي غربته ويرفضها في آن، ويبرر رغبته ورفضه فيما هو أكثر تناقضاً من وجوده الخاص الذي ينساب متموجاً وحاضناً ضفافاً وأحلاماً لا نهاية لها ومخترقاً، في الوقت ذاته، أدغال التوحش ومعايير التقاليد المغلقة والأعراف الصارمة، وهو فوق ذلك يستمد من أغانيه رؤية الغجري لذاته ولدوره معنى إنسانياً/جمالياً إضافياً ويزداد بالتالي انحناءً تحت وطأة طموحه الخاص الذي يشبه الضرورة وقد تلمسنا هذه الضرورة في القصائد (الأغاني) المعنونة: (ندب على الحبيب/المرأة/الجميلة المخطوفة/الجميلة المُشتراة /جاكو الأعزب/فوجو المسكين/غجري في السجن) إضافة إلى ان هذه الضرورة المشار إليها تقود الغجري نحو فضاء من الحرية المطلقة ليطمئن قليلاً إلى خروجه الطوعي أو القسري من ربقة الأعراف ومن لوثة التقاليد، كما يمكننا تلمس الضرورة في التعاطي مع معنى الموت الوارد في هذا المقطع المعنون: (خشية الموت: إنني اضطجع على السرير بعينين مغمضتين/بذراعين على الصليب/لقد مددت نفسي بأطول ما أستطيع/كأنني أضطجع من الآن في تابوت/ لا ينقصني الآن سوى اضطراب الشموع على رأسي والأغنية).

ثمة نصوص في ديوان الغجر، كأنما هي رسائل مختومة في زجاجات تسبح إلى مستقبل قلق غامض، أو حاضر يحمله التاريخ بعيداً، وحين ندخل في أدق خصوصيات أغاني الديوان نجد أن كل أغنية/قصيدة تقدم عالماً منفصلاً يلتقط التفاصيل الأعمق في لعبة الحياة الدامية مع المصير أو الحلم الذي يدفع الغجري إلى تلمس خيوط قادرة على الحياة في جثته الهامدة المعروضة على رفوف التاريخ وبوابات الذاكرة وحاجة الغجري إلى هذين المعطيين (التاريخ/الذاكرة) حاجة مزدوجة، فهو يريد من جهة أن يجعل للتاريخ ضرورة ومن جهة اخرى يمنح للذاكرة المعنى الجديد الذي يكرس الحقيقة المجردة أو المتعلقة بالجذور القديمة وقد لمسناه هذه المعطيات في هذا الجزء المعنون: (بلا عودة أبداً: آه يا سكة الحديد/آه أيتها القاطرة الصغيرة التي تهدر عبر جبل وواد/عبر جبل وواد حيث العديد من الأفاعي).

 

3

هذه الأغاني/النصوص المختلفة، في ديوان الغجر، تجعل من كاتبيها باحثين عن ضوء في عتمة محتمة، انهم (غجر/ملائكة) يندفعون من مغامرة إلى مغامرة، ومن خسارة إلى خسارة، ومن تجربة حب إلى اخرى وغير آبهين بقسوة التجربة وثقل الخسارة وتداعيات المغامرة، لا يعرفون الندم ولا يلتفتون إلى الماضي، وهذا الأخير عدم وهمٌ وعدم، ووحده المستقبل جدير بالأمل والأغنية والاستمرار، إذن هناك ما يشبه التواطؤ بين مصائر الغجر وبين القدر المتربص بهم ولعل في هؤلاء الغجر (الملائكيين) ما يشبه قليلاً أبطال الروائي الأمريكي ارنست همنغواي، فهم لا يعيشون الماضي ولا يندمون على شيء منه ومثلهم أيضاً يفلتون من أصابع الموت، محروسين بتعاويذ خاصة عندما تطبق يد القدر على كل شيء حولهم، وقد كان الغجر من اوائل السجناء في معسكرات الاعتقال النازية في بولندا واشهرها معسكر (اوشفيتز) الذي افتتح عام 1940 إذ تم ارسال، حسب المعجم التاريخي للغجر، 20 الف غجري وبهذا ايضاً طغت بكائيات اليهود على الإبادة النازية للغجر.

عنصر آخر يمنح حياة الغجري وحركته مسحة الأمل، هو الحب المنغمس في النهايات الغريبة أو في الأعماق الباحثة عن الروح التي تجتاح حياة الغجري لكي تخلق التوازن الداخلي والقدرة على الحياة والتواصل والمواصلة وقد تلمست هذه القدرة على تواصل الغجري في هذه النصوص: (الهروب: إنهم يبحثون عني/إنهم يفتشون/لكنني بعيدٌ جداً) (شجرة الحور والموت: حينما أصل لتلك الأكمة الخضراء/لن أذهب أبعد/هنالك يا أماه سأغادر روحي) (عنيد: اضرب بلا انقطاع يارب بلا انقطاع/هنا لقد خفضت رأسي وأحنيت ظهري/أنت تنظر يا رب ولكنك لا تُعين) وختاماً لهذه القراءة النقدية سأستعين بهذه العبارات التي كتبها المترجم جمال جمعة في تقديمه لهذا الكتاب: (الغجر لا يكتبون الشعر، إنما يغنون فقط، من قال إن الغجر يصعدون إلى السماء، مكسيم غوركي ؟ ألم نقل إنهم من الملائكة؟).

 

هوامش

1 ديوان الغجر: أغاني غجر يوغوسلافيا/ ترجمة جمال جمعة/مؤسسة الانتشار العربي  بيروت/الطبعة الأولى.

2 الغجر: ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب/المؤلف جمال حيدر/المركز الثقافي العربي  بيروت.

3 المعجم التاريخي للغجر/المؤلف دونالد كينريك/ترجمة حنان صديق/دار شرقيات  القاهرة.

إقرأ أيضا