الحرب كما لم تُعرف

تكتبُ الحرب حكاياتها على ظاهر الأجساد، وتحفر آثارها في باطن القلوب. تترك من وقائعها وأيامها نقوشاً تحكي كل شيء. يدٌ أو ساقٌ بترتها الشظايا فاستُبدِلت بطرف صناعي. عينٌ مفقوءةٌ أخذت مكانها عينٌ زجاجية. أبٌ لم تعد به الحرب، أو زوجٌ ترك امرأته وحيدة تتناهبها الحسرات. بيوتٌ مثقوبةٌ، ونخلٌ مُقطّعُ الرؤوس. بقايا تختزل ما جرى، وتُلخّصه بنظرة واحدة نحوها.

في الحرب يتحايل الجنود على أقدارهم بالسرد، فالوقت أطول على الجبهات، والصمت يهزّ النفوس بالخوف. أفضل الحلول مغالبة الوقت والصمت بالحكايات، لعلها تغالط المصائر المحدقة. يستذكرون لحظات جميلة للترويح عما هم فيه من كَمَدٍ، أو يستعيدون أوقات الشدّة التي علقت في الذاكرة لعلّها تُهوّن في نظرهم ما يعانونه الآن. اللمّة وجلسة السمر ما تلبث أن تنفرط، قد تفرقها قذيفة أو هجوم مباغت، لتغيب عن الجلسات القادمة بعض الوجوه. فتبقى الوجوه بعد ذلك تطارد الذاكرة، بينما الذاكرة تطارد القصص البعيدة.

كل شيء يتغير طعمه على جبهات النار، (ولا أدري كيف انتقلت تسمية الجبهة من أعلى وجه الإنسان إلى مصانع الموت في خطوط المواجهة بين المتحاربين!). كل شيء يفقد قيمته أو يتبدل معناه: الزمن يطول أو يقصر أو ربما يضمحل، العمر لا يغدو أكثر من لحظة، العائلة تتحول إلى دمعة في غيمة عابرة، والروح خيطٌ ساخنٌ ما أيسر أن ينفلت.

ها هي الأناشيد الحماسية ترفع من منسوب احتراق الدماء في الشرايين، مع ارتفاع مؤشر الخطر، الخطر الآتي مع الريح، والذي تأخذ أصابعه بتحريك الرايات. تتأهب الأنفس لمواجهة الشبح القادم، تتهيأ لمواجهة الضياع بقرصٍ معدني نُقشت على فضّته أسماءُ جثثٍ مؤجلة، لعلها تحظى بمدفنٍ يرتاده الأقرباء بين عامٍ وعام، حتى تتآكله أغبرة السنين، ويمّحي الاسم من شاهدته، ويُنسى!

تأتي القذيفة لتمحو مئات القصص الخبيئة في رأس أحدهم، ولتشتت كل ما اختزنه من ثقافات وكتب ومشاهدات وتأملات وأسئلة معرفية، أو لتمزق صدراً كان محشوّاً بالذكريات والآمال والرغبات. تسقط على مقربةٍ تكفي لأن تُحرق أسماء الأصدقاء والأحبة وتشوّه ملامحهم، وتقضي على الخطط الكثيرة والخرائط، خرائط عرفتها الأقدام وأخرى تنتظر. تنفلق القذيفة وتنشر شظاياها لتطلق الأرواح عالياً مع التراب والغبار والأشلاء المتطايرة.

في سرديات الحرب كثيراً ما نرى الباب مشرعاً وينتظر من يعبر عتبته، باب النهاية الأبدية، بكل الخوف الذي يحفّه… لكن ما لا يمكن سرده على وجه الدقّة مشاعر من كانوا يشاهدون الباب المشرع الذي ينتظر دخولهم، هناك في عمق المواجهة، وهم يعيشون هذا الاجتياز الأخير بكلّ تفاصيله المؤلمة، ويرتقبونه لحظة لحظة، فيمرّ هو من خلالهم مرات عدّة، ويدوس عليهم ببرود قاسٍ، وهم لا يزالون في هذا الجانب من العذاب. لا شيء في الدنيا يعادل رغبتهم في انغلاق ذلك الباب قبل أن يبتلعهم.

بعد انقضاء الحروب، كثيراً ما يشقّ المحاربون القدامى هامات الليالي لاستعادة أصوات الطائرات والمدافع وأزيز الرصاص، فلا تزال ذاكرة كل واحدٍ من أولئك الناجين مُعبأةً بأصداء تلك اللحظات المحترقة، وما تزال الصرخات الأخيرة تثقبُ خيالاتهم مثل حشرةٍ لعينة.

alidawwd@yahoo.com

إقرأ أيضا