ثقافة السياسي وسياسة المثقف

السياسي العراقي في أبسط تعريف له، هو الراقص الذي لا يجيد الرقص إلا فوق خرائب المدن ودمار النفوس. وأما المثقف فهو الملثم تحت ضوء الشمس. وكلاهما يشبهان فراغا بين هلالين.

نرجسية السياسي تدفعه دفعاً نحو زج أنفه في مضمار الثقافة، لإقناع نفسه بأن الثقافة هي الديكور الأخير الذي يجب أن يشتريه لكي تكتمل أناقته. بعد القصر الفخم والسيارات المصفحة والبدلة الجميلة لابد من ثقافة. والثقافة في مفهوم بعض السياسيين هي ليست أكثر من لغة عربية فصحى يتبجح بها في مؤتمراته الصحفية أو في لقاءات وبرامج لا تمثل بالنسبة له سوى إعلانات مجانية يمكن أن تصدقها شريحة من الجهلة.

وورطة المثقف في السياسة لا تختلف عن ورطة السياسي في الثقافة. يمتلك المثقف طاقة على المناورة اللفظية، يستطيع بواسطتها اختراق المنظومات الكونكريتية في لعبة السياسة، لكنه لا يمتلك حصانة تؤهله لكي يكون لاعباً مؤثراً في إنتاج قرار يفعل فعل المهماز الذي من شأنه أن يحرك ضمير السياسي.

السياسي، بلسانه السليط وظهره المسنود، بإمكانه أن يدفع بالسياسة لخدمة مصالحه الشخصية ومصالح مرجعيته الحزبية. بينما فشل المثقف في تسخير ثقافته لصالح مشروع ينهض بواقع الثقافة المحطمة. والسياسي أصبح لاعباً في تخريب البيت الثقافي من خلال تبنيه لأشخاص لا يفهمون من الثقافة إلا قشورها وزجهم في مناخها الرخو، بينما بقي المثقف ينظر الى رجليه كلما ارتفعت الجدران العازلة بينه وبين السياسي.

اللعب في مضمار السياسة أسهل بكثير من اللعب في مضمار الثقافة. والخوض في السياسة لا يتطلب قراءة اللزوميات أو شمّ رائحة مسرحيات شكسبير، بل هو يحتاج الى بناء شخصية تجيد فن اللعب على الحبلين، ولها قدرة إمساك العصا من طرفيها. ومن ثم سيكون بإمكان صاحب هذا الوصف أن يظهر على شاشات الفضائيات ويعرف نفسه على أنه (سياسي).

في حين لا يمكن لأحد أن يدعي بأنه مثقف وهو لا يمتلك ناصية الثقافة، وهي بالتأكيد ناصية صعبة المنال. لأن الثقافة كائن فضّاح، لا يستحي من المدعين أو راكبي الأمواج. ولطالما فضحت الثقافة السياسيين ولوثت وجوههم بتراب الفضيحة.  وهشاشة ثقافة السياسي ليست بالضرورة مؤشر فشل، فربما يعتبر البعض أن الثقافة ترف وزيادة في وزن الدماغ لا حاجة لها.  

ومما لا شك فيه، أن المثقف في بلادنا قد أصبح في نظر السياسي ليس أكثر من زائدة دودية يمكن استئصالها بسهولة. لأن المثقف اليوم لا يشكل برأسماله السردي والشعري والنقدي والفني، سوى الحلقة الأضعف والصوت الأقل فاعلية في الصراخ. ومن ثم فإنه حالة منفردة، أو صوت نشاز لا يليق بذائقة السياسي الاقتراب منها. وانحراف بعض المثقفين لا يعني انحراف الثقافة أو انحدارها، لكن انحراف السياسيين هو النتيجة الحتمية لانحراف الواقع السياسي. لأن السياسة هي بيئة، والبيئة من الممكن أن تكون نظيفة أو قذرة. أما الثقافة فهي شخصية راسخة لا تقبل معايير أو تقلبات مزاجية.

صمت المثقف هو صمت الضمير، وضياع هذا الصوت وسط ضجيج السياسي قد مهد لأن يكون البلد رهينة بيد صناع الخراب. وما دام الصامت يشبه في صمته مومياء جامدة فعليه قطع لسانه ورميه في أقرب (منهول)!

أمام تجربة طغيان السياسي على الثقافي، برزت قناعات موت المثقف. وأصبحت الثقافة مظهراً خداعاً لا يليق إلا بذوي الجاه أو بأصحاب الكروش المنتفخة. لكن هذه  النظرة كان من الممكن أن تكون مؤجلة بصعود بعض السياسيين الذين حملوا فكراً حقيقياً وبرزوا على أنهم رجال فكر حر، قبل أن تبلعهم أناكوندا السياسة.

فكانت الصدمة موجعة حينما تحول هذا المفكر الى آفة لفظية تدافع عن مكتسباتها الشخصية أو مكتسبات ساندي ظهرها الهش. وليس ببعيد عن هذا الوصف المثقف نفسه الذي أغراه عهر السياسة فوجد فيها ضالته. فبعد أن كان بعض المثقفين مجرد نكرات ومسّاحي أكتاف في زمن النظام البعثي دخلوا قصور السياسة اليوم من بوابات الدين والمذهب. وبالتالي فقد أزاحوا عن جباههم قطرة الخجل الأخيرة وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من فوضى العهر السياسي التي استباحت كل منطق وأتت على حبر الأقلام الشريفة بلغة الكواتم والخطف والترويع الممنهج.

 ليس سراً أن يكون المثقف جباناً أو منتفعاً أو ماسح أحذية في زمن تمرغت فيه الثقافة بوحل السياسة القذر، لكن السر هو أن ثمة صراخا يلتم في حناجر المثقف الآخر النائم على حصيرة الضيم والقابض على جمرة الكلمة التي تشبه القنبلة.

وليس سراً أن يصعد الطارئون على مسرح السياسة ويمتلكون زمام خيانة الشعب المهضوم ويقيمون حدود شريعتهم الناقصة فينا. لكن السر الذي لا يعرفه هؤلاء هو أن غباءهم قد غذى جيلاً واعياً عرف سر الخلطة مبكراً، وها هو يحني ظهر شبابه الغض ليصنع أملاً يكنس موبقات شواذ السياسة ويطهر الأرض من نجاستهم.

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا