إعادة إنتاج الهشاشة

كثيرا ما وصف الأمريكان الوضع العراقي بأنه هش. ولأنهم صنّاع رئيسون لهذه الهشاشة، فقد قدموا هذا الوصف بطريقة تتصف بعدم التحديد، لكنهم بوجه عام يقصدون الحالة الأمنية، وأحيانا يقصدون تعلق الأزمة السياسية المتواصلة بالحالة الأمنية. وببساطة هم لا يرون الهشاشة في طريقتهم بإدارة البلاد، ولا في حلولهم العسكرية التي أعاقت تطور سياسة وطنية مستقلة تتصف بالداينميكية والمتابعة والشفافية، وليس في تدريبهم لقواتنا المسلحة الذي اتصف بالقصور الشديد، ولا في تأييدهم لنظام سياسي يتصف بالتناقض والصراع الطائفي والاثني، ولا بحكومة يرأسها المالكي ولا أحد غيره.   

في كل الأحوال ليس الأمريكان على خطأ في هذا التقييم، لكنهم يكتفون به من دون توسع، وأعني من دون أن يغطي النظام السياسي كله ودورهم فيه. إنهم تجريديون ومتواطئون، وتهمهم أن يبقوا على علاقة طيبة مع النظام السياسي الذي فصّلته على مقياسها قوى جاءت مع غزوهم. والآن هل لكم أن تعقلوا ما جرى: أغلق غزاة 2003، بالرغم من قوتهم العسكرية الهائلة واستخباراتهم المتطورة، سفارتهم في بغداد خوفا من هجومات مرتقبة للقاعدة، مبدين عجزا واضحا عن حماية أنفسهم وجماعة النظام السياسي. أما النظام السياسي الذي عجزت سلطاته من أن تتوقع هجوم القاعدة على سجن أبي غريب، ثم عجزت عن دحره، أظهرت – بالعكس – مراجلها على مظاهرة شبان شرفاء مسالمين، يحتجون على الإرهاب وقرينه الفساد المستشري.

إذن ها هو عجز في التصدي للإرهاب من الأمريكان والنظام السياسي أولا، وعجز النظام عن قبول خروج تظاهرة سلمية، وامتناعه عن مدّ جسوره مع شبان هم من حيث التعريف ديمقراطيون حقيقيون يقفون ضد الإرهاب والفساد وينتخون لبلادهم ثانيا!

هذان العجزان يشيران إلى تخبط النظام السياسي، وانكشاف سياسي وأمني أمام الإرهاب، وانكشاف الادعاءات الديمقراطية للقوى المهيمنة على السلطة.          

ها أنا أصل إلى بؤرة الموضوع، فأنا شخصيا أصف النظام السياسي كله بالهشاشة، مع التنويه – وأشدد على هذا التنويه – أن هشاشته ليست مرضا يُراد له الشفاء بل مرض يراد له البقاء والتوطن.

لقد سبق أن كتبت عن مثل هذه الهشاشة الغريبة التي يديمها أركان النظام السياسي نفسه، ولم أشعر بأي تناقض ذاتي أو غرابة من قولي أن أولئك الذين يشكون من هشاشة النظام السياسي هم  أنفسهم صنّاعها والمحافظون عليها كأنها طوق نجاتهم: لقد حافظوا على مصالحهم في بقاء النظام السياسي هشا، فيما هم يشهّرون به ويشكون منه. سيعترفون بضرورة الإصلاح السياسي لكنهم لا يتحركون إليه. سيستخدمون السلطة بدناءة ثم يغتابونها في السر والعلن. سينتقدون المحاصصة بشراسة ويديمونها في الحكومة والبرلمان.

ألا تتذكرون كيف أن السيد المالكي هو من أوائل الذين نقدوا المحاصصة فيما كان هو المنظّم الإداري والمالي لها؟!

هل هذا لعب؟ لا. إنه النظام السياسي نفسه وهو يعمل!

لقد مثّل النظام السياسي حلا توافقيا بين طوائف وإثنيات ظهر من علاقات قوى غير متبلورة سياسيا وفكريا. حلّ شق طريقه في شروط معقدة: تهديد الإرهاب، الاحتلال الأميركي، عدم وجود دولة، فترة فوضوية جرى فيها التنافس السياسي على أسس طائفية، فجُمع له سياسيون غير مؤهلين وغير ديمقراطيين.   

لم تكن جماعة 2003 التي أقامت هذا النظام جماعة عمل مشترك، بل تنافس وابتزاز. لقد ولدت على المعابر الأميركية، وغالبيتهم جاء من الخارج، ومن جاء من الداخل سد فراغا سياسيا متبجحا أنه لم يأت مع الدبابات. الأكثرية بلا تدريب سياسي وثقافي، وحّدها الخطر لا المبادئ، بلا برامج غير تمثيل الطائفة والعشيرة. متظاهرون بالوطنية وتديرهم هيئة أركان الطائفة والعشيرة، والآن ها هم يسهمون بنظام سياسي يدّعي التوافقية ومضمونه تقاسم المنافع. ماذا نتوقع؟ ما يُقال ليس هو ما يُعمل، وما يُعمل يؤسس سلسلة ميكانيكية تنمو وتتسع على الجهة الأخرى.

ها هي الهشاشة مجسدة. العامل الموحد هو مكاسب السلطة، والبقية فراغ – نفسي، آديولوجي، عاطفي. السياسي الصرف فيها يشكل قشرة خفيفة، أما الأولي، المرجعي، العائلي، العشائري، الطائفي، فغاطس في لجة اجتماعية – تاريخية يشبه اللبن الرائب الحامض، وقد استيقظ، مسموما، على سطوح السياسة النفعية التي جرى تلفيقها قانونيا على عجل.

هؤلاء ليسوا بناة دولة، بل بناة قناطر وممرات إلى البنوك والوظائف العامة والقصور والأملاك، ومثلما تقاسموا الوظائف والأسلاب عمقوا الانقسامات بين شيعة وسنة وكرد وتركمان. لقد تغزلوا بالعراق وتحت آباطهم طائفي أو ممول إقليمي يمعمع.

الجميع لهم أقدام داخل الوزارات، وداخل الطوائف، والاثنيات، والشرطة والجيش، والمليشيات، وداخل الشعب الذي جرى إدارة رأسه. إنهم لا يريدون خسارة أي موقع من تلك المواقع، لكنهم ما زالوا مصرين على أنهم مختلفون على قضايا ممتازة، كحقوق الإنسان والدستور والسجناء وحوادث التعذيب! 

بسبب هشاشة السلطة والنظام السياسي والقوى والأحزاب السياسية، لا يتجرأ أحد من المعارضين الشرسين أو المدافعين عن المالكي الذهاب ابعد، يزعلون ويعودون، ينشقون ثم يرجعون (يسمون هذا عملية سياسية وهي الاسم الثاني للنظام السياسي).

علام الانشقاق الأخير إذن؟ كان الإصبع الإقليمي واضح، اندس من خلال الصراع المميت في سوريا. لقد ارتفعت الأسعار بسبب لحظة اتصفت بالصراع الطائفي المكشوف الذي انتشر على مساحة عريضة. من قرر توديع الهشاشة إلى الحرب لم يدرك أن هذه اللحظة مليئة بالمفاجآت. لنضرب أمثلة: أولئك الذين أقاموا تظاهرة مفتوحة في الغربية قدموا مطالب مشروعة، لكنهم لم يحاسبوا جماعتهم من الوزراء والسياسيين والإداريين المتواطئين، أي جميع الذين أشاحوا بوجوههم عن الإصلاح السياسي، ودلّسوا على مشروع التعديلات الدستورية من اجل المناصب. بالعكس بدلا من محاسبتهم وعزلهم احتضنوا. وما أشبههم برجال الجهة الأخرى الذين أخفوا لصوص الكهرباء وصفقات السلاح والغذاء والتكتم على علاقاتهم الإقليمية وانشقاقاتهم الداخلية. حتى في الانشقاق يبقى نفس الأبطال يواصلون عرض شريطهم السينمائي. لقد أمسكت هيئات أركان الطوائف بأذيال السياسيين وأحرقتهم.     

والحال أن الجزء الفعّال من السلطة، ونعني به القوات المسلحة والشرطة والأجهزة السرية، التي تركت بقيادة رجل واحد، وظلت بقيادته بلا مبرر، أظهرت قدرا كاملا من الجهل السياسي والأمني، وواصلت هي نفسها تحطيم جسور التفاهم، وخلط الأوراق، وتأليف الروايات المضحكة عن المؤامرات الخارجية.

لقد تساهلت هذه السلطة في تمرير ميكانيكية الفعل ورد الفعل: قبضة ترتفع هناك ترفع قبضة هنا، حفنة من الدولارات توزع هناك يضربها الكرم بعشرة هنا. تحشيد مقابل تحشيد، حمقى يقابلهم الأكثر حماقة. وبدلا من الاعتماد على العقلاء والمهنيين والديمقراطيين يُدفع إلى المقدمة مخبولون يشبهون أمثالهم على الجهة الثانية!

حتى الآن لا توجد إستراتيجية من القوى الرئيسة التي خططت مع الأمريكان غير إبقاء العراق ضعيفا، بلا دولة، بل سلطة منقسمة مصابة بالدوار، معزولة عن المواطنين بسبب ضعفها ولصوصيتها وانعدام آهليتها المهنية، تأتيها ضربات الإرهابيين من كل صوب وحدب فتبيع مراجلها على أكثر القوى شرفا وتهذيبا ومسالمة. وفي الوقت الذي لا يخطو النظام السياسي ولا خطوة خارج المصالح المتحاصصة في الحكومة والبرلمان، ولم يقم ولا مرة بالتنسيق مع القوى الحقيقية المؤمنة بالديمقراطية التي لم ترفع هراوة واحدة، لم يخش عقد الصلات مع مليشيات مسلحة لا تعترف بالديمقراطية ولا الدستور تستخدم سيارات الدفع الرباعي وتمارس الاختطافات والاغتيالات بمسدسات كاتمة الصوت. وببساطة شديدة اعتقد النظام أن سياسة إرهاب ضد إرهاب صالحة للعمل بالرغم من فشلها وافتضاحها منذ 2006. لقد واصلت جماعة السلطة الحفاظ على مكاسبها في السلطة والبرلمان.. وخلطت ما بين الرأسمال والسياسة، أي كل الظواهر الناتجة عما سميته باقتصاد السمك المسكوف.. وبهذا ستواصل الشكوى والنقد الذي لا يصنع شيئا غير العودة بنا من جديد إلى الحماقات واللصوصية وشراسة الإرهاب.

ما يُكره لفظا يُدام في الواقع. ما ينكشف يُعاد تغطيته: إنه النفاق الشرس الذي لا يخشى أن يكون عارا!

* كاتب وصحفي عراقي

إقرأ أيضا