اعتزال الصدر و\”تسييس\” السيستاني

تطوران مهمان استجدا في المشهد السياسي العراقي خلال الأيام الأخيرة، فكان لهما دلالات وعواقب نحسبها على درجة كبيرة من الأهمية والتأثير. هنا، وقفة تحليلية عند هذين التطورين نحاول عبرها استشراف آفاقهما ومغازيهما الأعمق.

التطور الأول هو إعلان اعتزال زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر العمل السياسي فجأة، وهو إعلان كُذِّب ثم أُكِّد عدة مرات، واستقر أخيراً كخبر مؤكد استدعى اجتماعاً لقيادة التيار لمناقشة قرار زعيمه. ثم، بقصد ثني الصدر عن قراره الاعتزال، تداعت أعداد من عناصر وكوادر ومحاربي التيار إلى القيام بزيارة لمرقد والد زعيم التيار الشهيد محمد محمد صادق الصدر الذي اغتالته مخابرات نظام صدام حسين بالرصاص، هو ونجليه مؤمل ومصطفى سنة 1999.

البعض ربط قرار الاعتزال مباشرة بالاشتباكات المسلحة بين مقاتلين صدريين وآخرين من «عصائب الحق» المنشقة عنه في مدينة الثورة «الصدر»، وفشل الجهود الساعية إلى تطويق تلك الاشتباكات حزبياً وعشائرياً. ومن ردود الأفعال السريعة على القرار تصريح رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، ذي العلاقة المتوترة أصلاً بقيادة التيار، أيّد فيه قرار اعتزال الصدر، لكنه أضاف أنّ وجود السلاح في أيدي عناصر غير منضبطين سيؤدي إلى تداعيات خطيرة، وأنّ ممارسات قيادة التيار شكّلت إساءة كبيرة إلى تراث الشهيد الصدر الثاني، والد مقتدى، وكان رد التيار الصدري قاسياً ومتشنجاً وخارج اللغة السياسية المألوفة، حيث ردّ أحد قادة التيار على المالكي بوصفه (مريضاً نفسياً وأنّ التيار سيحاكمه بعد انتهاء مدة حكمه بتهمة الخيانة العظمى).

أحزاب وشخصيات أخرى دعت الصدر إلى العدول عن قراره، فيما قال نائب رئيس الوزراء صالح المطلك إنّ الصدر (تعرض لضغوطات خارجية دفعته إلى الاعتزال، إضافة إلى اليأس من حدوث أي انفراج حقيقي في الوضع العراقي العام). والواقع فإنّ تعليل اعتزال الصدر بتعرضه لضغوطات خارجية أخيراً، لا يمكن أخذه على محمل الجد، فلطالما تعرض الصدر لضغوطات قوية، وفي أوقات أكثر حرجاً وصعوبة، ولكنه لم يتراجع عن قناعاته وقراراته غالباً. والراجح هو أن العامل الأبرز في اتخاذ قرار الاعتزال هو الداخلي والمتعلق بحالة الشد والجذب بين قادته، وبينهم وبين المجموعات المنشقة عليهم. وهناك أيضاً قضايا الفساد التي اتهم بها نواب ومسؤولون صدريون، وكلف التحقيق فيها نائب رئيس البرلمان عن التيار قصي السهيل، الذي أقيل لاحقاً بأمر من الصدر بعد فشله في مهمته، ثم تراجع عن استقالته.

بعض المتابعين توقع أنْ يكون لانسحاب الصدر من الساحة السياسية نتائج إيجابية إذا اندمج بمساعٍ حقيقية للفصل بين رجال الدين وأدوارهم السياسية، بما يمنع رجل الدين من النشاط السياسي بوصفه رجل دين وبين السماح له بذلك النشاط، ولكن كمواطن طبيعي مساوٍ لغيره لا يمثل إلا نفسه ولا يتكئ على صفة أو رتبة أو منزلة دينية كما يلمح الدستور. ومن الجدير بالتذكير هنا، أن مقتدى الصدر ذاته، كان قد أعلن في السنة الماضية موقفاً متطوراً جداً حين صرّح في 12 أيار/ مايو 2012 داعياً إلى وجوب تخلي رجال الدين، وخصوصاً مَن كانوا في «الحوزات/ المدارس الدينية» عن النشاط السياسي، أو أنْ ينشطوا سياسياً ويتخلوا عن صفتهم وأزيائهم الدينية، وقد جرى تمييع هذا التصريح، بل ونفيه من قبل قياديين آخرين في التيار لاحقاً. إن تراجع الصدر عن قراره الاعتزال أمر وارد، إذا تفاقمت الأزمة داخل التيار وتحولت إلى نوع من الفوضى العنيفة والتشرذم التنظيمي والميليشياوي.

في الأيام ذاتها تقريباً، حدث تطوّر آخر، كان موضوعه دور المرجعية الدينية النجفية ونفوذها، وتحديداً دور المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، في ضوء تصاعد المطالبات الشعبية والمنادية بالحدّ من امتيازات ساسة العملية السياسية وإلغاء رواتب النواب التقاعدية، التي تتعاطف معها المرجعية. بدأ هذا التطور حين نشر النائب عزة الشابندر المقرب من نوري المالكي تغريدة على حسابه في «تويتر» لاحظ فيها أنّ المرجعية الدينية «تحاول انتزاع موقع الولاية من الدولة من خلال استقطاب مشاعر الناس، مشدداً على أنّ السيد أحمد الصافي، الأمين العام للعتبة العباسية وأحد رجال الدين المقربين من المرجع السيستاني، يعرّض موقع المرجعية للتساؤلات من خلال استخفافه بكرامة السياسيين ووطنيتهم، مخاطباً إياه بالقول: من يحاسبك أنت على أدائك ومكتسباتك وامتيازاتك بسبب موقعك؟ ورغم أنّ الأمر لا يتعلق بـ«كرامة السياسيين» كما قال الشابندر بل بجيوبهم وامتيازاتهم، ولكن الأخير رفع سقف مطالباته داعياً إلى ربط مرجعية العراق الدينية بالولاية العامة لإيران، ما يعني لو تحقق ربط التوجه الديني للعراق بولاية الفقيه الإيرانية والخضوع لمرجعية الخامنئي مرشد الجمهورية الإسلامية. وهو أمر ترفضه أوساط واسعة من شيعة العراق.

إثر تغريدة الشابندر، صدرت ردود أفعال سريعة وحادة، ربما كان أكثرها تشنجاً وخروجاً عن اللغة الدبلوماسية ما صدر عن قياديين في التيار الصدري وجهوا إلى النائب الشابندر عبارات صادمة وجارحة تنال من شخصه، كوصفه بالقزم والسكير وذي الأفكار المسمومة… الخ. وهي لغة باتت مألوفة لدى بعض القياديين الصدريين. وقد علق أحد المدافعين عن الشابندر بالقول (إنَّ الصدريين هم آخر من يحق لهم الدفاع عن المرجع السيستاني بعد أن حاولوا ترحيله من العراق إلى إيران في السنوات الأولى للاحتلال الأميركي، ولم يثنهم عن سعيهم ذاك إلا تدخل مسلحي القبائل العربية في منطقة الفرات الوسط وسيطرتهم على مدينة النجف لأيام عدة لحماية المرجع).

كذلك صدر ردّ فعل رافض لتغريدة الشابندر عن عدد من السياسيين المعممين، بعضهم من دولة القانون كالنائب خالد العطية، وبعضهم من حزب «المجلس الأعلى» كعمار الحكيم وصدر الدين القبانجي الذي أكد أن \”المرجعية هي حصن الشعب العراقي وبأمرها صوت على الدستور، وأن العملية السياسية أمام خطر انهيار حقيقي بسبب محنة السياسيين\”.

أما الشيخ مهدي الكربلائي الذي يوصف بالمعتَمَد الرسمي للمرجع الأعلى، فقد ردّ في خطبة صلاة الجمعة رداً مفصلاً على الشابندر يبشر بتوجه جديد وقوي لتسييس دور المرجعية النجفية وموقعها، دون أن يعني ذلك أنّ السيستاني نفسه موافق عليه؛ إذ يذهب المقربون من المرجع إلى أنه لم يغير موقفه القائم على النأي بنفسه عن السياسة والشأن العام. وبحسب بعض المحللين، فقد كانت خطبة الكربلائي أقرب إلى بيان رقم واحد لانقلاب أبيض حين أكّد أنَّ (أي جهة، حتى وإنْ لم تكن دينية – وهذا ما نشاهده لدى جميع شعوب العالم – حينما تمتلك قاعدة جماهيرية من ملايين الناس فإنَّ من حقها الطبيعي – وهذا ما يقرهُ الجميع – أن تطالب بحقوق هذه الملايين وتدافع عنهم وتعبّر عن صوتهم ومطالبهم لتحقيق حقوقهم. وإنَّ مطالب المرجعية ودعواتها وتقويمها لأداء الحكومة ومجلس النواب تمثل صوت الضمير للمواطن العراقي للحصول على حقوقه وتحقيق مصالح البلاد، داعين مجلس النواب إلى الإسراع بإقرار القوانين التي تمس حياة المواطن ومنها قانون توحيد سلّم الرواتب وقانون التقاعد. إنّ المرجعية الدينية العليا حينما تتحرك وتطالب بمطالب تخص أبناء الشعب العراقي وتقوّم أداء الحكومة ومجلس النواب خلال هذه السنوات، لا يأتي انطلاقاً من موقعها الديني، بل انطلاقاً من قاعدتها الجماهيرية وبما تمتلكه من رصيد جماهيري يتمثّل في ما تملكه من قلوب ملايين الناس).

بعض المتابعين للشأن العراقي لمس في خطبة الكربلائي توجهاً قوياً لجعل المرجعية الدينية بمثابة سلطة ثالثة فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية. غير أن متابعين آخرين رفضوا هذه التفسيرات وعدّوها مبالغاً فيها، فهذه المضامين الواردة في خطبة الكربلائي قد لا تخرج عن إطار رد الفعل الانفعالي على تصريحات الشابندر وزملائه العازمين على وضع حد لتدخلات بعض رموز المرجعية الدينية في أمور تخص امتيازاتهم المالية والتلويح بوضع امتيازات ومصالح المرجعية ذاتها تحت الإشراف الضريبي الحكومي. وكان ثمة رأي آخر عبّر عنه بعض النشطاء المدنيين على مواقع التواصل الاجتماعي، حذروا بمقتضاه من ردود الفعل العنيفة على هذه التوجهات لأسلمة الدولة وزيادة تدخل رجال الدين الشيعة في شؤون الحكم، انطلاقاً من كون العراق بلداً متنوعاً ومتعدداً طائفياً وقومياً، وهذا ما يجعل أي تحريض أو تبشير بالأسلمة السياسية، بصرف النظر عن انتمائه الطائفي، سيجابه برد فعل عنيف من الطرف الطائفي المقابل الذي سيرى فيه تهميشاً وإقصاءً له، الأمر الذي ستستغله الجماعات المسلحة التكفيرية فتوجه ضرباتها الدموية للمدنيين العراقيين في ظل الفشل والعجز الحكوميين عن حماية الناس في المدن العراقية، وهذا بالضبط ما حصل ثاني أيام العيد حيث ارتكب تنظيم القاعدة مذبحة جديدة أدت إلى مقتل وإصابة أكثر من 400 شخص.

اللافت أنّ ردود الأفعال القوية التي انهالت على النائب الشابندر لم يصدر ما يماثلها في العنف عن هذه المصادر رداً على تصريحات مشابه صدرت قبل أيام قليلة عن نائبين كرديين هما عارف طيفور، نائب رئيس البرلمان، وفرهاد الأتروشي قالا فيها مضامين تغريدة الشابندر ذاتها مع اختلاف المناسبة وبقاء السبب، وهو الدفاع عن امتيازات السياسيين المالية، بل إنّ ما قاله النائب الكردي طيفور فاق بدرجات ما عبّر عنه الشابندر حين أكد (ضرورة أن تسارع المؤسسات الدينية إلى تقديم كشف بحساباتها المالية وأملاكها الكبيرة وتقديمها إلى هيئة النزاهة وأمام الشعب العراقي). لكن ردود أفعال الصدريين وغيرهم على تصريحات النائبين الكرديين لم تخرج عن إطار العتب الهادئ والمطالبة بالاعتذار عنها، وهذا يعطينا ملمحاً ذا دلالة نفهم منه أنّ المرجعية الدينية وأنصارها يرون أن الخطر الحقيقي على دورها ومصالحها هو ذاك الذي يأتي من داخل الطائفة لا من خارجها، أما إذا جاء من ساسة إسلاميين وشيعة من داخل الطائفة كالشابندر، فهو سيكون مضاعف الخطورة.

مع هذه التطورات، ومع زيادة منسوب العنف والدماء البريئة التي يسفكها الجهاديون السلفيون في تنظيم القاعدة وحلفائه عبر تفجيراتهم أو من خلال التصفيات على الهوية التي تقوم بها الميليشيات الطائفية، ومع بقاء و«صمود» الرئاسات الثلاث وأصحاب المواقع العليا في مواقعهم، ينحدر الوضع العراقي العام إلى المزيد من التحلل والتعفن وفقدان القدرة على المبادرة لوقف التدهور الشامل.

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا