الأمن الفكري وحماية الوطن

واجه الوطن العربي أزمة ذات طابع مركب، لكونها أزمة فكر وواقع معاً شملت مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومثّل الفكر أهمية خاصة ضمن هذا الطابع نظراً لدوره المحوري فيها، سواء على صعيد خلق الأزمة أو صياغة الخروج منها، وقد حفظ الإسلام للبشرية عامة وللمسلمين خاصة أمنهم الفكري، إلا أن التاريخ شهد منذ القدم على الكثير من العقول البشرية التي لا تدرك الحقيقة، إما بسبب القصور في الفهم والوعي أو لعدم الإيمان بالمسؤولية المجتمعية الوقائية، فكان الاضطراب والتفجيرات والقتل والتدمير، الذي أحدث خللاً بالأمن الحسي الذي ستظل آثاره منطبعة في الذاكرة لأمد طويل.

يعتبر الفكر البشري ركيزة هامة وأساسية في حياة الشعوب على مر العصور ومقياساً لتقدم الأمم وحضارتها، وتمثل قضية الأمن الفكري مكانة مهمة في أولويات المجتمع الذي تتكاتف وتتآزر جهود أجهزته الحكومية والمجتمعية لتحقيق مفهوم الأمن الفكري تجنباً لتشتت الشعور الوطني أو تغلغل التيارات الفكرية المنحرفة، وسيظل العقل البشري عرضة للانزلاق في براثن الوهم والخطأ ما لم يصاحبه تقنية وتنقية فكرية رشيدة ومستمرة، خاصة في هذه المرحلة التي تشهد تصاعداً للهجمة الشرسة على الإسلام وإلصاق تهمة الإرهاب به، وبذلك تكون الحاجة إلى تحقيق الأمن الفكري هي حاجة ماسة لتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي.

هنا يمكننا القول بأن الأمن الفكري لكل مجتمع يسعى إلى الحفاظ على هويته وحماية العقول من الغزو الفكري والانحراف الثقافي والتطرف الديني، بل الأمن الفكري يتعدى كل ذلك ليكون من الضروريات الأمنية لحماية المكتسبات والوقوف بحزم ضد كل ما يؤدي إلى الإخلال بالأمن الوطني.

من التحديات الكبيرة التي يواجهها العالم العربي هو الغزو الثقافي الذي أوجد مناخاً يتسم بالصراع الفكري الذي يجر إلى نتائج وعواقب خطيرة على مقومات الأمة وحضارتها، وظهور رأي دخيل على المجتمعات العربية، ثم تشتت المفكرين بين مؤيد للتفتح على الثقافات العالمية مع مراعاة المحافظة على الثقافة الأصيلة، وبين منغلق متعصب يرى في هذا التفتح خطراً يقضي على الموروث الأم ويجهز على مقوماته ويفتح الباب على مصراعيه لظهور أفكار غريبة عن قيم المجتمع ومكوناته، التي تؤدي إلى تدفق الثقافات الأجنبية عبر قنوات الاتصال المتنوعة، وهذا يؤدي بدوره وعلى المدى البعيد إلى إعاقة نمو الثقافة الوطنية والقومية بسبب ذيوع الأنماط والأساليب الغربية الموحدة للثقافة، الأمر الذي يجعل الثقافة القومية الآمنة في كفة، والكم الهائل من الوارد من ألوان المنتجات والثقافات في كفة أخرى، فتتلاشى الثقافة القومية شيئاً فشيئاً مع عامل الزمن، وتندثر ليحل محلها الوافد الجديد.

لقد ظهر موضوع الغزو الثقافي بعد انهزام الدول المستعمرة وانتهاء احتلالها العسكري في معظم الدول العربية، حيث عملت هذه الدول إلى استخدام أساليب متعددة، منها الهيمنة الفكرية لتحقيق ديمومتها واستمرارها في مستعمراتها القديمة للمحافظة على إحكام السيطرة عليها، فجنّدت لذلك الموارد المادية والبشرية التي أصبحت تهدد بها كيان هذه الدول، حيث تعددت وانتشرت الأيديولوجيات التي لا تتلاءم مع الاستمرارية التاريخية الفكرية للدول العربية، ومن هنا أصبح الحديث عن الأمن الفكري في الدول العربية من أهم الأزمات التي ظهرت على سطح الأحداث الراهنة في مجتمعاتنا العربية.

لقد اقتحمت العولمة البنى الثقافية والحضارية لبلداننا العربية، فلم تقف العولمة عند التدخل في الاقتصاد، بل تعدته إلى مجالات الحياة الثقافية، فأصبحت الأوطان سوقاً مفتوحة أمام المنتجات الثقافية وأنماط التفكير والأذواق وأسلوب الحياة الغربية ما شكل مساساً بهوية الوطن، وما الأحداث المؤسفة التي حلت بمجتمعنا العربي إلا مخرجات الفكر المنحرف الذي مس الهوية الثقافية للوطن والذي كان للعولمة بوسائلها وأدواتها دور مهم في تشكيله.

عمل المستعمر منذ القدم على خلخلة الثقافة القومية، بما يبثه من أباطيل وأكاذيب تمثلت أحياناً بإحياء النعرات الطائفية، أو ترويج الثقافة الغربية، أو تزييف الحقائق التاريخية أو تأليب الشعوب على حكوماتها، حيث اعتبرت مؤسسة فرانكلين التي بدأت عملها في العالم العربي عام 1953م، والتي سيطرت على قطاع النشر في مصر، بأنها كانت أحد الأسباب الرئيسة وراء تردي الوضع السياسي في مصر في تلك الفترة. كما أدت الثقافة الغربية إلى بروز الفردية والأنانية لدى أفراد المجتمع حتى فقد الفرد غريزة الانتماء إلى أمته ومجتمعه، وأصبح يتردد بلا هوية، وانعكس أثر ذلك على الأدب، حيث شاع في مجتمعنا العربي أدب اللامعقول الذي يعكس مدى الغربة والوحشية التي يعيشها الإنسان العربي جراء صخب المدينة المتواصل الذي أفقد المجتمع ضرورة العلاقات الاجتماعية وإنكار الذات، كما تسللت إلى ثقافتنا ألفاظ دخيلة غريبة واستطاعت أن تتغلغل في المؤسسات العلمية، ومن التعبيرات التي شاعت في مجتمعنا العربي تعبير الشرق الأوسط وهو أحد تعبيرات الغزو الفكري، ويراد به إيجاد مكان لإسرائيل في المنطقة وبهذا يكون المستعمر قد نجح في زعزعة المفاهيم وغرس ما يريد من أفكار من خلال تكرار مصطلح الشرق الأوسط عبر وسائل الإعلام الذي يطبع في ذهن الناشئة هذا المصطلح ويذهب مقابله مصطلح الأمة الإسلامية.

لذلك بذلت مجتمعاتنا العربية جهوداً جبّارة في تأمين فكرها وتأمين الأمن له، فأنشأت لذلك مؤسسات رائدة، واتبعت سياسات واضحة المعالم لحماية الأمن الفكري للشباب  لتأمينهم ضد مخاطر التيارات الفكرية المنحرفة مهما كانت المغريات أو الدوافع، من خلال ترسيخ مبدأ وسطية الإسلام وتحديد بؤر الانحراف الفكري والمشاركة الشعبية ومعالجة ظاهرة الإرهاب وما يرتبط بها من انحراف فكري من خلال مناهج البحث العلمي وتفعيل دور الإعلام الأمني، وهنا يجب أن يتم التعامل مع ظاهرة الانحراف الفكري باعتبارها واقع معاصر فرض علينا ولا مفّر منه، وإن تعدد التحديات الفكرية وما صاحبه من قصور قد زاد من عمق المشكلة، لذلك نرى أن استقرار الأمن الفكري في ظل المتغيرات المعاصرة يعتمد على بناء إستراتيجية تمثل مشروعاً وطنياً تشارك فيه كل أطياف المجتمع، للحد من العوامل السلبية ذات الصلة بالأمن الفكري وتنمية مجموعة المدخلات الثقافية العامة التي تطور اهتمامات العقل في عصر الاتصالات والتأثيرات السلبية لحرب الفضائيات على كافة الأصعدة، حيث تهدف العوامل التربوية والسياسات المعتمدة إلى إعداد الأجيال وبناء شخصيتهم للدخول إلى معترك الحياة المستقبلية على أساس من التوازن النفسي والمعرفي، من خلال الاهتمام بالتربية في المدارس والمساجد والبيوت وغيرها من مؤسسات المجتمع الأخرى، وينبغي هنا ألا نغفل أهمية دور المدرسة في الكشف عن المظاهر ذات المؤشر الإنحرافي الفكري أو الأخلاقي في تحقيق هذا الأمن، لذا يجب على تلك المؤسسات وضع الخطط المدروسة التي تحقق الوعي الأمني لحماية المجتمع من الانحراف والغزو الثقافي وتوفير الأمن الفكري، حيث اعتبرت مناهج التعليم كفيلة بأن تنمي في أعماق الشباب روح الوطنية الحقيقية، وتساعدهم على تمييز الثقافة الفكرية المسموعة التي تبثها وسائل الإعلام المشبوهة سواء عن طريق البث الفضائي أو الصحف أو المجلات الوافدة من الخارج، كما يبرز دور المعلم في تعزيز الأمن الفكري كونه الموجه لفئة الشباب داخل الحرم المدرسي وخارجه، وهو الذي يستطيع توجيه جيل وطنه إلى البناء والخير والفضيلة..

وفي إطار ذلك تعتبر المؤسسات التربوية والتعليمية من أولى الجهات المعنية بالحفاظ على الأمن والاستقرار في المجتمعات، وفي غيابها يبدأ انحلال عقد الأمن الفكري للفرد، ويتقهقر المجتمع، وتضمحل منجزاته الحضارية. إن استثمار عقول الشباب واجب يشترك فيه جميع الأفراد والمؤسسات والهيئات في المجتمع.

والواقع أن سورية عملت على تعزيز المقومات الرئيسية لاستقرار الأمن الفكري التي تكمن في ترسيخ المبادئ الأخلاقية وبذر التعاليم الشرعية الصحيحة، وتعميق القيم الاجتماعية وفق المقومات الإسلامية لدى الناشئة، والتطلع نحو مستقبل أكثر أمناً وبناء الهوية والأصالة بشكل يمكّن من استيعاب التراث والحضارة ويهيئ الانفتاح الآمن على الثقافات الأخرى مع التمسك بالعقيدة الصحيحة، بالإضافة إلى طرح رؤية مستقبلية لتطوير وتعميق مفهوم الأمن الفكري الوطني ومجموعة القيم الأسرية والاجتماعية والحضارية العليا في المناهج التربوية والبرامج الإعلامية بأبعادها المختلفة.

وأخيراً يمكن القول إن الأمن الفكري يبقى الهاجس الوحيد الذي يشغل مجتمعاتنا العربية، كما يظل ورقة مربحة بيد الدول الاستعمارية تستخدمها في أي وقت تشاء لخلط الأوراق عندها والتلاعب بمصائر شعوبها، لذلك لا بد من تفعيل دور التخطيط الاستراتيجي لأنه الأقرب في معاينة وقراءة المستقبل للوطن من حيث الأخطار التي تواجهه من ناحية الانحراف والعنف الفكري وتكالب القوى الخارجية لتحقيق أهدافها في زعزعة الاستقرار الفكري للمجتمع.

وأختم مقالتي بالقول إن الأمن بمفهومه الشامل مطلب رئيسي لكل مجتمع فهو ركيزة استقرارها وأساس أمانها واطمئنانها، والأمن الفكري يعد من أهم أنواعه وأخطرها فهو يمثل الرأس من الجسد بما له من صلة وثيقة بهوية الأمة وشخصيتها الحضارية، وستظل هويتنا الإسلامية مرتكزاً لجميع الإنجازات التنموية والحضارية في إطار المنظومة الأمنية استناداً إلى الحقيقة الماثلة في عقولنا والتي تفضي بأن الأمن والتنمية هما وجهان لعملة واحدة تقويهما وترشد مسارهما وترعاهما هوية راسخة تدور معها وبهما في شتى مجالات الحياة.

* باحث وأكاديمي سوري

إقرأ أيضا