أيها الخطباء.. كفى!

قال ناصح ومضى: أيها المراؤون: توقفوا عن الدفاع عن الله بقتل الإنسان، ودافعوا عن الإنسان، كي يتمكن من التعرف إلى الله (جبران).

في أجواء من فوضى لا يبدو أن لها نهاية، يطلق عليها جزافا مفردة (الديمقراطية) يقتحم أسماعنا صراخ في كل جمعة من على منابر يعتليها (خطباء) يدعون إلى كل شيء عدا ما يوحد الكلمة ويحقن الدماء. بشر من نوع غريب يدّعون أنهم رجال دين وهم ابعد ما يكون البعد من قيم الدين وسماحته. يدعون إلى الكراهية والقتل واستباحة الحقوق بحجج كاذبة، همهم الأول والأخير إرضاء شياطينهم الذين يغدقون عليهم عطايا السحت الحرام، لكي تترجم خطبهم إلى جيّف تتفجر في أوساط الأبرياء في الأيام التالية، في دوامة القتل اليومي منذ زوال حكم الطاغية اللعين صدام. 

كم تمنيّت لهؤلاء الدعاة الجهلة أن يطلّعّوا على ما جاء في نهج البلاغة لعلي (ع) حول أهمية للكلمة ومخاطرها أن كانت غير منضبطة بمنظومة قيمية وأخلاقية تكبح جماحها، وبان الكلمة مسؤولية عظيمة – قد يكون لها آثار اجتماعية خطيرة تهدد حياة مجتمعا بأسره، حين تستهوي الكثير من الجهلة والمغامرين الناعقين مع كل ناعق حيث يصبح القول [رب قول أنفذ من صول]، وهي مرآة صافية تنعكس على سطحها صورة قائلها جلية واضحة، فهي إما أن ترفع من شانه، معرفيا وأخلاقيا أو تضعه في أسفل سافلين حيث [تكلموا تعرفوا، فان المرء مخبوء تحت لسانه]. ولقد سأله احدهم: صف لنا العاقل؟ فقال: [الذي يضع الشيء موضعه]، والجاهل؟ قال: [لقد فعلت]. لهذا لا ادعي أني استطيع أن أضع القول المناسب في الموضع المناسب، ولكني احرص اشد الحرص ألا أضع نفسي في وثاق الكلام الذي سوف أقول، حينئذ ينطبق عليّ القول [الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه]، ولكي أكون أكثر تحفظا وحيطة، ألزمت نفسي دائما بقوله: [لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم] أو قوله الآخر: [مقاربة الناس في أخلاقهم، امن من غوائلهم [– لكنه طالما أذهلني بقوله: [لا يستوحشنكم طريق الحق لقلة سالكيه [—- فكيف يتسنى لي كتم قول الحق، الذي وصفه في موضع آخر بان: [الحق ثقيل مريء، وان الباطل خفيف وبيء]. ولقد انتابني شعور بالقوة والجرأة وأنا المح قوله: [لا تظنن بكلمة خرجت من احد سوءا، وأنت تجد لها في الخير محتملا]. حيث أني لا أريد إلا الخير لكل من يقرأ ما كتبت، ولهذا لا اطمح إلا بحسن الظن منكم أحبتي، وأرجو ان نكون في الوسط في الآراء والمواقف. أو ليس نحن أمة الوسط؟ ولهذا تذكرت قوله: [أحبب حبيبك هونا، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا عسى أن يكون حبيبك يوما ما]. وعلى كل حال، قد يكون الذي سطرت من كلمات، كان في غير محله، ولكنه هو رأي، وهو أمرنا بالاستئناس بأكثر من رأي [من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال، شاركها في عقولها]. ومن ثم اسمعه كيف يحادث كميل صاحبه: [يا كميل، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها — يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر] —- كان هدفي أن انقل لكم جواهر من سيد الحكماء، وهو القائل [الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة، ولو من أهل النفاق]. ولقد حذرنا جميعا في قوله: [من أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه بما لا يعلمون]. ودعانا إلى لين القول في كل حين، حيث يقول: [خالطوا الناس مخالطة، إذا متم معها بكوا عليكم، وإذا عشتم حنوا إليكم] وأعجب من انه يحذرنا من الاسترسال في الكلام، ويحبب لنا الصمت بقوله: [تلافيك ما فرط من صمتك، أيسر من إدراكك ما فات من منطقك]. وهو القائل أيضا: [واعلموا رحمكم الله أنكم في زمان، القائل فيه بالحق قليل].

ختاما: انه علي يعلّمنا آلّية جميلة لصوغ العبارة ومواقف وتوقفات للكلام والسكوت. 

* مهندس عراقي

إقرأ أيضا