أقدم شنّاق في العراق: تنفيذ الإعدام لا يعكر مزاجي ولا أتعاطف.. وكل الذين تدلوا من حبلي مذنبون

نقرأ، نسمع، نشاهد على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، عن الإعدامات وحالات الشنق، نتعاطف مع ضحايا القرارات الجائرة التي تقطع رؤوس أناس لا ذنب لهم سوى معارضة أنظمة الحكم، بعضهم يتحوَّل إلى شهيد بامتياز، يحفظ له التاريخ صورة ناصعة في سجلاته، وبعضهم لا يحظى بتعاطفنا، بل نصب عليه جام غضبنا نتيجة سيرة القتل التي أوصلته إلى منصة الإعدام أو حبل المشنقة. في كل هذه الحالات، نتحاشى السؤال عن شعور الجلاد لحظة الإعدام. نعلم عن نزيف ذاكرة المحكوم بالإعدام قبل الشنق، كما يصفها الشاعر عبد الوهاب البياتي. لكننا لا نبحث عن ملامح الرجل الذي قام بالشنق؛ هل يبدو هذه المرة البحث استثناءً؟ ربما، لاسيما وأن سيرة الشنّاق الذي يتحدَّث عن تفاصيل مهنته لـ\”العالم الجديد\” تثير الفضول. صورته ليست مطابقة لتلك الصورة المخزونة في الذاكرة. رجل كبقية الرجال. ليست له ملامح حادة، ولا عضلات مفتولة، ولا غلظة قلب. له -فلسفته- الخاصة في مهنته النادرة، مهنة الجلاد (إنها مهنة كما غيرها من المهن) بحسب وصفه. 

رجل تجاوز العقد السابع من عمره، عاصر حكومات عديدة عصفت في التاريخ السياسي للبلاد، أباح الكثير من الأمور التي تتعلَّق بعمله. تحدَّث عن أدق التفاصيل في هذه المهنة. يقول إنه لم يرَ أي كابوس طيلة حياته من تداعيات عمله، ويدافع عن الشنّاق الذي أعدم شقيق صدّام حسين بقوله انه \”لم يخالف المعايير الدولية وحقوق الإنسان في طريقة الشنق\”. يستذكر إعدامات ساحة التحرير التي جرت أواخر ستينيات القرن المنصرم \”كنت متدربا حينها، شنقت شخصا واحدا فقط\”.

يعيد حساباته بعد مرور العقود السبعة التي مرّت عليه، أو مرّ بها، ويتمنى أن يعود الزمن بهِ ليكون \”أستاذا جامعيا\”.

 

فشل في الدراسة فصار جلادا

يسكن \”ف.ص\” في أحد أزقة العاصمة بغداد مع أسرته التي تتكوَّن من 8 أولاد 4 منهم ذكور، اثنان متزوجان، و4 إناث 3 منهن متزوجات، فضلا عن 3 أحفاد. ما زال قويَّاً، يمشي بتؤدة، ويربِّي 3 قطط، يداعبها بين الفينة والأخرى، وهي أيضا تتلوّى بين أقدامه \”طفولتي عادية، بدأت الدراسة في مدرسة الزبير بن العوام في محافظة البصرة. كنت متفوِّقاً في دراستي، لكني كنت أتشاجر دائما مع الطلبة وبعض المعلمين، وهذا أثر في مستواي الدراسي ففشلت في الدراسة\”. هكذا يتحدَّث الشنّاق والجلاد العتيد عن طفولته، ويتابع \”عملت مع والدي في أعمال حرة كثيرة، والتحقت بسلك الشرطة العام 1962، وهنا رشحني أحد الضباط لعمل مساعد جلاد، وذلك مع 10 مرشحين آخرين\”. ويكمل \”بعد إجراء الاختبارات والفحوصات الطبية نجحت في الاختبار وتسلَّمت عملي كجلاد\”.

كانت هذه بدايات \”ف.ص\” في (مهنة) تعدُّ من أصعب أنواع المهن، لاسيما وأنّها أصبحت، في ظلِّ تطوِّر الحياة الديموقراطية في البلدان المتقدمة، غير إنسانية، فضلا عن انقراضها في بلدان أوروبيّة كثيرة.

يؤكد \”ف.ص\” أن عمله \”عادي جداً ويمكن أن يقوم به أيّ إنسان\”. عرفت أسرته أنّه يعمل جلادا عن طريق أحد أصدقائه في المهنة نفسها \”تقبلوا الأمر بشكل عادي ولم يمانع أحد\”، هكذا يقول، حدث ذلك في محافظة البصرة حيث أمضى 3 أعوام مساعد جلاد.

وفي حال أثرت هذه المهنة في علاقته بزوجته أو أولاده يقول \”منذ تم زواجي في بداية ستينيات القرن الماضي وحتى الآن لم يحدث أبدا خلاف بيني وزوجتي جعلها تترك منزلي وتذهب إلى منزل والدها لأي سبب من الأسباب\”، مؤكدا \”لم أسئ إليها على الإطلاق، ولم يحدث أي تغيير في حياتنا الزوجية بعد التحاقي بمصلحة السجون العراقية\”.

لَـمْ يضرب \”ف.ص\”، بحسب قوله، أيا من أولاده طيلة حياته، إلا أنه يستذكر أنه ضرب ابنه مرَّة بسبب تلويثهِ لـ\”حِبّ\” الماء بالتراب.

 

طقوس الإعدامات

يبدو البحث عن الطقوس التي تسبق تنفيذ الإعدام، والتي تعقبه، ملحة، إلا أنها في الوقت نفسه مرعبة. لكن الشنّاق العتيد، الذي يؤكد أنه كان يتقاضى حوافز إثر تنفيذه لأحكام الإعدام، يظهر غير مكترث وهو يسكت ظمأ البحث عن تلك الطقوس حيث يشير إلى أن نوع حبل المشنقة خاص وليس حبلا عاديا، كما يظن بعضهم، إذ أنه – والقول له – ذو \”مواصفات خاصة، وينفذ به إعدام 3 متهمين فقط، وبعد ذلك يتم الاستعانة بحبل آخر\”، مؤكدا أن حبال الشنق كانت تستورد من الخارج.

ويفيد بأن حالات تعطيل أو إلغاء تنفيذ عمليات الإعدام قليلة \”في حال حدوث إغماء للمدان يعطَّل التنفيذ، حيث يقوم طبيب السجن بإسعافه لحين استعادة وعيه، ومن ثم ينفذ الحكم به بعد الافاقة\”.

ويشرح أجواء الاعدامات \”غالبا ما تتم عملية تنفيذ حكم الإعدام بحق (المذنب) بعد صلاة الفجر.. أُحضرُ معي زميلي المساعد وأجهز الغرفة بتركيب الحبل واستعد لقدوم المنفذ به الحكم، ويأتي (المذنب) صحبة بعض الحراس الذين يرأسهم أحد الضباط إلى غرفة الإعدام حيث تنتظر هيئة التنفيذ التي تتألف من أحد الضباط الكبار في السجن وطبيب من الطب العدلي فضلا عن طبيب السجن وأحد رجال الدين وممثل عن وزارة العدل والقضاء\”.

ويشرح قول \”ف.ص\” ما تبقى من الأجواء \”بعد قراءة القاضي للحكم والنطق به يتقدم إلى المحكوم عليه رجل الدين الذي يؤتى به بحسب مذهب (المذنب)، ويطلب منه أن يتلو الشهادة وبعض الآيات القرآنية إن كان مسلما، والقيام بطقوس أخرى بحسب معتقد (المذنب) إن كان على دين آخر\”. ويمضي موضحا \”بعد ذلك يتقدم ممثل القضاء إلى (المذنب) لسؤاله عن الأشياء التي يتمناها قبل تنفيذ الحكم به.. وبعدها أُدخله أنا إلى غرفة الإعدام، وأضع الحبل حول رقبته، والكيس الأسود في رأسه، وأكبل قدميه، وانتظر الإشارة من المسؤول المباشر عن عملية تنفيذ حكم الإعدام.. وعند ذاك أُنفِّذُ الحكم ويسقط (المذنب) الى الاسفل\”.

الشنّاق، الذي أدمن مسلسل النسر وعيون المدينة حين عرض أوّل مرة، يواصل السرد \”بعد ذلك أنزل إلى أسفل الغرفة مع الطبيب الشرعي وطبيب السجن لقياس النبض بعد التنفيذ.. وبعدها يترك (المذنب) معلقا بالحبل لمدة نصف ساعة\”.

وهنا، يتذكَّر \”ف.ص\” المواقف الصعبة التي رافقت عمله في السنوات الطوال وهو ينفِّذ حكم الإعدام بأناس يبدو أنه لم ينسَ أسماءهم \”لقد كانت عملية إعدام (م.ج) وهي زوجة أقدمت على قتل زوجها ومثلت به صعبة\”، ويعقب \”لقد كانت إمراة شرسة تسكن في شمال البلاد، حاولت جاهدا أن اتخذ الاحتياطات اللازمة، وركّزت النظر والتمعن فيها حتى لا تعتدي علي بأي شكلٍ من الأشكال بـ(العض) و(الخرمشة) لاسيما وأن أظافرها كانت كأنياب (أسد جريح)، وكما أخبرني المقربون منها بأنها شرسة أكثر من الرجال الذين نفذت بهم حكم الإعدام سابقا.. ولكنها في النهاية كانت مستسلمة\”.

 

شعور الإعدام الأوَّل 

يستعيد \”ف.ص\” صورة أوَّل إعدام نفَّذه بكامل تفاصيلها \”كان أول موقف أو ممارسة لي في تنفيذ هذا القصاص في أثناء التطبيق أو التدريب\”، ويبين \”نفَّذته في متهم يتاجر بالمخدرات وقتل امرأة بعد أن اغتصبها ومثل بجثتها\”. 

ويصف ما حل به بعد تنفيذ حكم الاعدام الأول – من دون أخطاء- \”عشت 3 أيام قلقا، ولم أنم، لكن أعصابي هدأت شيئا فشيئا، ثم أصبحت عملية تنفيذ الإعدام طبيعية وليس فيها ما يعكر مزاجي أو يُفسِدُ عواطفي\”، مستدركا \”للعلم لَمْ يحدث أن حلمت ذات مرَّة أو جاءني كابوس في أثناء نومي بأي عملية من عمليات الإعدام التي نفذتها\”.

 

الإعدام يدخل السرور إلى قلب \”مسرور\”

يؤكد \”ف.ص\” أن هناك عمليات إعدام تدخل السرور إلى قلب الجلاد، لاسيما حين يكون ذنب الضحيَّة مؤثرا في مشاعر الجلاد. ويسترجع من ذاكرته هنا كيف أنه حين أعدم أحد (المذنبين) في قضية جلب واستيراد سموم بيضاء من دولة مجاورة \”شعرتُ بسعادة غامرة لأني أقضي على رجلٍ جاءَ وقدم من خارج الحدود لإعدام شباب بلادي\”، هكذا يعيد النظر إلى تلك العملية، ويعرب في الوقت نفسه عن أسفه لأن المخدرات لا تزال تدخل إلى العراق.

 

نفي العطف 

الشنّاق الذي يردّد أغنية حسين نعمة \”يا حريمة\” لم يشعر بذنب تجاه أي من الذين نفذ بهم الاعدام \”لا أتعاطف تجاه أي (مذنب) أو (مذنبة)\”، هكذا يشدد مقتنعا أن كل من تدّلوا من على حبل مشنقته (مذنبون) \”إذا ما تعاطفت -وذلك مستحيل- فانني لن اقوم بهذا العمل.. لا أتذكر يوما خلال خدمتي في هذا السلك أني نفَّذتُ حُكماً بمتهمٍ بريء\”.

ويفخر أنه واجه العديد من الحوادث لكن أيا منها لم يهزه، مع أنه يتأثر مثل أي إنسان ويتألم لألم الآخرين \”فأنا لست وحشا وأخاف الله وأهتزُّ داخليا عندما أسمعُ بكاء طفل صغير وأنا أسيرُ في الشارع\”، بتعبيره.

لكن القسوة والعنف أليست من صميم عمل هذا الرجل، فكيف ينظر إلى أيامه الماضية بعد كل هذه التجربة، وبعد أن تقاعد من عمله.. يرد بسرعة \”أرى نفسي إنسانا حسن السيرة والسلوك\”، ويفتخر بأنه لم يتعرض لعقوبة طيلة خدمته، فضلاً عن أنه أب \”أدى رسالته لأبنائه وأعطى حبه لأحفاده\”، مشيرا إلى أن أمنيته الآن \”تتركز في أن يكمل أبنائي وأحفادي ما لم أُنجزه في التعليم فقد كنتُ أحلم أن أكون استاذا جامعيا\”.

 

لا ذنب للشنّاق بانفصال رأس \”برزان\”

وعن السياسة والمهنة التي تركها خلفه، في آن، مرّ الحديث على إعدام برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام حسين، بعد أن أثار في فريق الدفاع عن برزان شكوكا بشأن طريقة إعدامه التي أدَّت إلى انفصال رأسه عن جسده، علق \”ن.ص\”؛ \”لا أريد أن أظلم الجهة التي نفذت الإعدام لأن كل الشروط الدولية وتعليمات حقوق الإنسان كانت حاضرة آنذاك، على عكس ما يروج له بعض المغرضين، بالقول ان هناك انتهاكا للمعايير الدولية\”. ونوه بأن \”برزان يعاني من الإصابة بمرض السرطان عندما كان سفيرا للعراق لدى سويسرا وقد تهرأت خلايا جسده بفعل العلاجات الكيميائية التي كان يتعاطاها طيلة فترة مرضه.. أنا توقعت حدوث ذلك وأخبرت عائلتي. قلت لهم إن صحت وصدقت الأخبار بأن برزان مصاب بمرض السرطان فان رأسه سينفصل عن جسده\”.

ويذكر أنه لم يتعرَّض أبداً لموقفٍ في أثناء تنفيذ عملية إعدام أن ينفصل رأس المحكوم عليه عن جسده \”لأننا كنا نتبع الأساليب الصحيحة في تنفيذ حكم الإعدام\”. 

 

حفلة الإعدامات في التحرير

الرجل الذي يضع أغنية أم كلثوم، \”للصبر حدود\”، نغمة لهاتفه المحمول، يتداعى الى ذاكرته، وهو يقص، حدث سياسي كبير يرتبط بعمله حين كان فتيا في مهنته، إنه إعدام 35 عراقيا، بينهم 13 يهوديا، بتهمة التجسس لإسرائيل في 27 كانون الثاني من العام 1969، حيث علقت جثث بعضهم في ساحة التحرير \”كنتُ آنذاك أتدرَّب على تنفيذ الإعدام، وكانت مهمتي تنفيذ الحكم بالمدان (ع.ن). كانت تلك أول عملية اعدام أنفذها\”. وهو يستنجد بذاكرته، يعيد ترتيب المشهد كمن يمسك التفاصيل التي تشرد بين وقت وآخر \”كان ذلك فجرا، وأتذكر أن جميع المدانين كانوا يرتدون ملابس الإعدام ذات اللون الأحمر. وفي رقبة كل منهم قطعة من الكرتون الأبيض خط عليها اسم المدان وجنسيته والجريمة التي ارتكبها\”.

 

شاهد من أهلهِ!

في منزل الشنّاق العتيد الخالي من أيِّ صورة له، كان لا بدَّ من المباغتة، ومعرفة ما عايشه أولاده إثر مهنة والدهم، قيس الابن الأكبر للشنّاق، وهو رجل تجاوز الأربعين من عمره، يقول \”فوجئت عندما علمت، بالصدفة عن طريق أحد اصدقاء والدي، بأن والدي يعمل جلادا وينفِّذ حكم الاعدام\”، ويتساءل كيف يكون الرجل الذي يعيش معه تحت سقف واحد هو الذي يقوم بتنفيذ احكام الاعدام؟ 

يواصل قيس، وهو يمسك بتلابيب طفولته التي أصبحت بعيدة الآن، \”حينها  كنت طفلا.. فقلت لنفسي: ألم يجد والدي عملا غير هذا العمل؟! ولكن الاجابة جاءتني من نمط حياتنا اليومي، إذ لم نجد أي تغيير في حياتنا\”.

وعلى حد علم قيس فان والده \”لم ينفذ حكم الإعدام بأحد اقاربه أو معارفه إلا شخص واحد فقط كان صديقا للوالد أيام الدراسة المتوسطة.. وتراجع الوالد عن التنفيذ قبل موعده، ولكن، بعد تراجعه، تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد\”.

ويؤكد قيس أن \”الوالد رغم عمله هذا يعيش حياة عائلية هادئة وسعيدة. وكان يهوى تربية الكلاب والقطط. وغالبا ما كان يصطحبني كل يوم جمعة الى سوق الغزل ليتعرف ويشاهد الكلاب والقطط النادرة هناك\”.

إقرأ أيضا