تهميش الثقافي في الإعلام المرئي العراقي

الجانب الثقافي في الحياة العراقية بدا يتجه نحو التهميش في التمثيل الاعلامي، وخصوصا الاعلام المرئي في السنوات القليلة الماضية. واقصد بالثقافي هنا حقلا محددا، هو الابداعي رغم ان الثقافي بمعناه العام يشكو الفقر ايضا، لكني اركز هنا في الابداعي من حقول الفنون والاداب.

لقد حصل هذا المجال على اهتمام كبير بعد التغيير السياسي في العراق بعد 2003 واستمر لعدة سنوات بعد ذلك، الا انه تعرض للتهميش في نهايات العقد الاول من هذا القرن. ولنأخذ قناة واحدة تلك التي تقع على عاتقها مسؤولية القيام بمهمة ابراز وتداول والترويج للابداع الوطني العراقي، مما يمكن ان يوصل هذا الابداع الى المشاهد في البلد كجزء من ستراتيجية وطنية تقوم على التثقيف والترفيه والتعليم الذي نص عليه تشريع بريمر لشبكة الاعلام العراقي. حتى لو اخذنا هذا القانون رغم عجزه عن رؤية الاهمية الثقافية للاعلام في بلدنا، لكننا في اقل الاحوال يمكن ان ننطلق منه كمسير لسياسة اعلامية وطنية.

نرى اولا، ان البرامج الثقافية تكون ضحية للبرامج السياسية التي تأخذ الحصة الاولى من اهتمام هذه القناة، تطبيقا خاطئا لاحدى فقرات تشريع بريمر، وهي تغطية نشاطات الحكومة. ان الاختلاف هنا اولا ان القناة تفصل الحكومة عن المجتمع بالتركيز على نشاط والترويج للفئة السياسية، لاغراض تقع في خانة اما سياسية ضيقة او طائفية او حزبية او كل هذه الاسباب مجتمعة. وتنسى القناة المنجز الابداعي الذي يشكل الهوية الوطنية للبلد ويؤثر في تشكيل شخصية الفرد الاخلاقي والجمالي والابداعي. وبالتالي يجعل منها شخصية مختلفة عمن سواها من الشخصيات الوطنية الاخرى، ويدفع بها الى التميز الوطني. وبهذا تفصل القناة بين الابداعي الذي يشكل وعي المواطن وبين الاشخاص الساسة الذين حتما سيخضعون للدورة الانتخابية القاسية قريبا، ولن يكون لهم حضورهم في سير المجتمع.

وهناك سبب آخر هو، بساطة هشاشة القائمين على الاعلام المرئي من ناحية ثقافتهم العامة ووعيهم لاهمية الابداع في تشكيل هوية الفرد والمجتمع. فالقائمون على هذه المفاصل الادارية لا يملكون رؤية واضحة لما يمكن ان تكون عليه سياسة القناة التلفزيونية. بالاضافة الى ذلك هناك جانب آخر مؤثر في الاعلام المرئي هو البرامج الترفيهية التي تؤدي الى تسطيح الوعي والرصيد الثقافي للمجتمع. ان هذه البرامج الترفيهية يقدمها مذيعون لا يملكون ثقافة تعلو على ثقافة ربات البيوت. ان هذا السعي نحو الترفيهي هو نتاج التقليد الذي يصيب الاعلام المرئي لنماذج اعلامية من خارج البلد او من داخله، تلك التي تملك رصيدا من المشاهدين، فيؤدي هذا الى التقليد لمحاولة الحصول على اكبر قدر ممكن من المشاهدين من اجل اهداف السياسية تسعى الى التأثير في المجتمع التي غرضها انتخابي في النهاية او غرضها التنافس السياسي او الطائفي.

فنلاحظ عموما في مجمل القنوات المرئية العراقية ظاهرة \”التابلويد\” وهو اختصار الثقافي على شكل مجلة من اخبار صغيرة لا تفي بالغرض. لا تفي في ايصال الانتاج الابداعي الوطني الى المشاهدين، وهدم الهوة بين المنتج الثقافي والمستهلك للنص الابداعي، وبذلك لا تتم عملية التكامل التي تؤدي بالتالي الى جعل الثقافة فاعلة في المجتمع.

لنأخذ العراقية في هذا مثلا، فهناك برنامج واحد هو \”فضاءات ثقافية\” وهذا البرنامج اليتيم يغيب ويعود وقد ياخذ هذا الغياب شهورا، بالاضافة الى انه يتبع صيغة الاخبار الثقافية المختصرة \”التابلويد\”.

ان هذه الظاهرة أدت بالتالي الى تهميش المبدع العراقي، وعدم شعور المواطن بوجوده في الحياة العراقية عموما، ولأدت ايضا الى انزياح في تقييم المبدع لذاته. فالمبدع له موقفان من هذه الظاهرة هو اما ان يرفضها ويعيش منعزلا يتبادل نتاجه الابداعي في دائرته الضيقة من المبدعين بشكليها الفيزيائي النخبوي، عبر الفعاليات الثقافية او الافتراضية عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وظل المبدع يبحث عن الجمهور عبر عملية أشبه بتوسل للجمهور لكي يشعر بهويته وقيمته الذاتية وهذا يحدث عبر شبكة من المتطلبات والتنازلات الى جمهور متعدد المشارب والاذواق وخلال هذا يصبح المبدع في موضع المتلقي متنازلا عن هويته وذائقته وحساسيته الابداعية ولابسا هوية اخرى فيها الكثير من التنازلات باتجاه الاجتماعي على حساب الابداعي.

والطريق الثاني الذي يسلكه المبدع نراه يتخذ عنوانا يفرضه عليه الاعلام المرئي لكي يظل ضمن دائرة الاهتمام وهو عنوان الكاتب و\”المحلل السياسي\”. صحيح اننا في حاجة الى مثقفين شموليين يساعدوننا في تشكيل رأي عام يسهم في زيادة وعي المواطن بمشاكله السياسية والاجتماعية وسبل حلها، لكن هذا التوصيف يجب ان لا يطغى على الابداعي في ذات المبدع، وبالتالي لا يسهم في حرمان ثقافتنا الوطنية من فرصة الانتاج الابداعي الذي له فوائده التي اسلفنا على الشخصية الوطنية. ومن العجيب ان المثقفين انفسهم لا يعتبرون المبدع مثقفا ويتعالون على هذه التسمية. وهذا الشعور بقلة القيمة نتاج مرحلة السنين العشر الاخيرة وليست ما قبلها، لانها ببساطة هي السنين التي ينبغي ان تعبر عن تحرر المبدع من سلطات القمع والرعب الذي احسه المبدع ابان النظام السابق.

* شاعر وكاتب عراقي

إقرأ أيضا