المصادفات لا تصنع ثقافة

أظن أن الكتب التي نحتاجها لمعرفة امتدادنا العراقيّ الحديث تظل قليلة جداً. وحتى كتبنا المعاصرة والأكاديمية قليلة لقلة مصادرنا هناك. وإذا تصفحتَ كتاب فاطمة المحسن عن تمثلات النهضة العراقية لا تجده غير مجموعة من المقولات العامة أو النمطية التي تدور في فلك شخصيات أدبية عامة كالرصافي والزهاوي وبعض الكتب المكتوبة عن رواد الصحافة العراقية.

وحين تسالُ عن السبب فإنه يعود إلى المؤسسات الثقافية. إذ ليست لنا المؤسسات الفعالة ثقافياً ووطنياً. ونحن – واعذروني إن كنتُ ظالماً في هذا الحكم – لم نجد من يحاول أن يعيد نشر الوثائق المتوفرة عن بدايات العراق الحديث فكرياً وصحفياً وادبياً. ولولا نظام السلسة الشعرية الذي ورثناه عن شرّاح الأدب العربيّ القديم الذي يقوم بوصل الشاعر بأسلافه لفهمه فيقول روى عن فلان الذي روى عن فلان وعن فلان.. لولا ذلك لما توقفنا عند الرصافيّ والزهاويّ وغيرهم من الشعراء.

ولذا لم نجد إلى اليوم مشاريع حقيقية وجادة لإحياء المتن الكتابيّ العراقيّ ونشره وتوزيعه في كتاب رخيص. وهو أمر ينطبق حتى على الرواية العراقية والقصة والشعر العراقيّ الذي كتب في بدايات القرن العشرين، ويحتاج إلى إعادة طباعة وتعريف وتقديم للقراء. وإلا فهو غير متاح الا للمتخصصين.

وبناء على ذلك ظهر عندنا في البحث العراقيّ، وفي الاكاديمية العراقية ظاهرة نادرة الحدوث وسيئة الأثر في الثقافة العراقية وهي؛ هجرة البحث إلى الخارج موضوعاً ومصادر وروحاً، فتجد الكثير من البحوث الجامعية تُكتب في ظواهر الأدب والثقافة المصرية، لتوفر المصادر في هذا المجال، ووجود التصور العام المنسجم والواضح حوله. فأغلب الباحثين والدارسين العراقيين يعرف الكثير عن النهضة في مصر في مجالات الفكر والادب والثقافة ورموزها، والقليل جداً في مجال قرينتها في العراق ولا يتعدى ما يعرف الأسماء الشعرية المتداولة.

ولذا جاء كتاب أميرة بابلية (1844) للعراقية من أصول مسيحية ماري تيريز أسمر(1804-1857) مفاجئاً لي. فهو ينطوي على صورة متكاملة عن الحياة العراقية الدينية والاجتماعية والمذهبية والسياسية في تلك الفترة، وعلى تصور أبعد للحياة الدينية والسياسية في الوطن العربيّ، فضلاً عن تصور عن الذات التي ترى وتروي، وهي صاحبة الكتاب ماري، وللعالم الذي تتحرك فيه سواء كان الشرق أم الغرب.

ومن منظور المختلف دينياً أو المنتمي إلى الأقلية. فماري المسيحية تعاني هي وعائلتها من البطش الدينيّ العثمانيّ المتشدد تجاه المسيحيين. فأبوها يُسجن ويُجرد من أمواله لبنائه كنيسة ويموت كمداً. وبالنسبة للمحليين أي العرب (غير الأتراك) أو الفئة المحكومة، فهم موزعون بين المجموعات المذهبية التي تتحرك اجتماعياً ومكانياً ضمن تنميط ذهنيّ مسبق تعرفه ماري تيريز كما يعرفه المعاصرون لها. فالوهابية مجموعة من المهاجمين القتلة السلّاب الذين ينشرون الخوف والهلع في قلوب الناس لجرأتهم على الدماء والأموال. والشيعة في المقابل مجموعة لا يمكن ان تكون محل ثقة أحد لا في دينهم ولا في سلوكهم. وهو أمر يشير إلى فجوة اجتماعية قديمة راسخة تمنع التعايش الأهلي بين الفئة الحاكمة التي تتطابق مذهبياً مع الأقلية السكانية في العراق وبين الفئة المحكومة. والفجوة كما نعرف جرى تعميقها قومياً وايديولوجياً بنسبة هذا المكون الاجتماعي إلى الفرس وإلى الصفوية حديثاً، وبالارتياب المتواصل بكلّ ما يأتون به.

وهناك المجموعات المكانية أي مستوطنو المدن وهم في الأصل من المسيحين المتمدنين الميسورين مادياً، الذين يعانون المضايقة الدينية من الفئة الحاكمة، والثقافية من رفض الناس المختلفين عنهم دينياً ومذهبياً لهم. وهناك البدو الذين يتحركون في بوادي العراق ويعيشون على سلب المسافرين وسرقتهم، ولكنهم في المقابل ينطوون على عدد من التقاليد والقيم المتوارثة مثل الكرم واحترام اختلاف الآخر وحمايته.

لقد قدّم الكتاب صورة للحياة الاجتماعية والفكرية السياسية والمدنية في العراق في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. وهي صورة تفسر لنا الكثير من ظواهر العنف والرفض والكره التي نلمسها اليوم ولا نكاد نعرف لها سبباً ونحن نحتاج إلى الاطلاع عليها كباحثين وتفسيرها.

ولكن أعود للقول من يتولى هذه المهمة؟ فحتى هذا الكتاب عثرت عليه المترجمة العراقية أمل بورتر المقيمة في بريطانيا مصادفة مهملاً وقامت بترجمة ملخصاً. فقد اختصرته إلى النصف، ذلك لأنها نظرت إلى محتواه من وجهة نظر فردية فانتقت ما يتفق مع اعتقادها بأن ما ينطوي عليه من تأملات ومن مناجاة دينية الطابع لا تناسب القارئ العراقي المسلم في الغالب. وأنا أرى، مع تقديري لخطوة بورتر، أننا بحاجة إلى تقديم المتن الكتابي للقارئ كاملاً ومن غير تهذيب، لكي نفهم العقلية العراقية كما هي وفي ظروفها آنذاك. كما اننا بحاجة قبل ذلك، وبجهد مؤسساتي واعٍ، إلى البحث عنه في أي مكان من العالم وإعادة نشره وفي هذه المرحلة خاصة.

إقرأ أيضا