التقاطات المستشرقين عن الأهوار

قاصدين الذهاب للأهوار مع سبق الاصرار والترصد مرة، ومرة أخرى قاصدين المرور من خلالها الى أماكن أخرى، في كلا الحالتين فإن المستشرقين والرحالة الأجانب لم يتركوا توثيق ما صادفهم من مشاهد ملفتة جدا بالنسبة لهم، دون توصيفها ولو ببضعة كلمات، فجاءت تلك الالتقاطات المثيرة في تراكيب لغوية ملفتة بعض الشيء لا تخلو من ظرافة ودقة نظر. 

أثناء مرور القائد العسكري، جورج كبيل، عبر دجلة في العام 1824، وجد نفسه بين أناس يشبهون أبطال الإغريق والرومان القدامى فكتب: \”لم أرَ مثل قوة وصلابة أصحاب الزوارق العرب… وللحقيقة فإن أيّ واحد منهم يصلح أن يكون أنموذجا ممتازاً لهرقل\”. 

ذاته جورج كبيل تستوقفه كثيرا طريقة تناول الطعام التي شاهدها عند بعض عرب الأهوار.. فيصف ذلك بتركيبة من المفردات اللغوية لا تخلو من الاثارة: \”يجلس القرفصاء ويعدّل من وضع عباءته برزانة عربية خالصة، ويبدأ العمل برفع الكم حتى المرفق أولاً، ثم يأخذ قبضة من الرز، ويشكلها على شكل كرة التنس، ثم يقذفها في فمه، فتجد تلك المضغة اللذيذة، رغم حجمها الكبير، طريقها إلى المعدة بمساعدة قطعة زبد تقدم دائماً مع الأكل\”. التوصيفات تستعير مفردات ومفاهيم ومشاهد من ثقافة وطبيعة أخرى، فمثلا من منا يستحضر \”كرة التنس\” على سبيل المثال حينما يشاهد قبضة من الرز في يد من يأكلونها على الطريقة التقليدية؟!

عن منظر البيوت الصفراء المصطفة الى جنب بعضها، يكتب كبيل \”كانت القرية عبارة عن تجمع لحوالي 50 سقيفة من الحصران، يتراوح طولها بين الخمسين والستين قدماً، يشبه هيكلها سفينة مقلوبة\”. بينما يصف جيمس بيلي فريزر، منظرا مشابها بطريقة مختلفة عن كبيل، يقول فريزر عن منظر بيوت القصب: \”أكواخ صغيرة مصنوعة من القصب تبدو كأنها كنائس قوطية\”. وليس بعيدا عن ذلك أتى توصيف ولفريد ثيسيغر عن المضيف حيث كتب: \”يعتريني انطباع دائما حين أكون جالسا في مضايف الفرات أني داخل كاتدرائية رومانيسيكية او قوطية، زادها جمالا الوهم البصري من خلال السقف والشبابيك المزخرفة في كلا النهايتين التي تدخل الأشعة الساطعة من خلالها خارقة العتمة الداخلية. تمثّل المضايف سواء كانت على الفرات أو دجلة انجازا معماريا رائعا من مواد غاية في البساطة\”.

أما صاحب كتاب العودة الى الأهوار الرحالة كافن يونغ الذي زار الأهوار في مناسبات مختلفة فيكتب عن مشهد الجواميس التي تفضّل البقاء جالسة في الماء ولا تحبّذ الحركة، وهو مشهد يتكرر كثيرا، فيكتب عن الجاموس بأنهن \”أميرات الكسل\”، فعلاً إنهن كذلك، كسولات دائما. 

يتوقف يونغ عند مشهد المداخن التي تشعل من أجل إبعاد البق والحشرات التي تزعج الجاموس، شدّه الموقف فوصفه قائلا: \”يشعلون نيراناً صغيرة، وبطريقة ما، لا ترسل لهباً بل تدخّن فقط، فتكون موجات لولبية من الدخان على جانبي عيون الجواميس المعذبة بسحب من الحشرات الصيفية\”. 

ذات يونغ وحينما شاهد التصميم الأنيق للدلة \”أبريق القهوة\” قفز الى مخيلته قبل اي وصف آخر، شكل المنقار فكتب عن ذلك، \”تسكب القهوة من وعائها الخاص خلال فتحة طويلة مقوّسة تشبه منقارا\”.

وله توصيف والتقاطة دقيقة عن نساء الأهوار، تنم عن نظرة متأنية ودقيقة جدا لذلك الواقع، فيصف النساء \”المؤكد أنهنّ لسن الخادمات المسحوقات المحتقرات المهملات المستغلات كما يتخيلهن، باعتقادي، بعض الأوروبيين. إنهن يشتغلن أجل، لكن الرجال يشتغلون كذلك، فالعمل قدر كل سكان المنطقة… إنهن القوة الخفية في مجتمع الأهوار\”. 

 لقد كتب ذلك لانه رأى بأم عينيه أن النساء هناك يؤدين اعمال المنزل، يشاركن الرجل في قص القصب والبردي، يشاركنه في الزراعة، وفي معظم ما يقوم من اعمال. هو وثيسيغر يؤكدان في مناسبات مختلفة بأنه من النادر ان تجد إمراة بدينة في الأهوار، وذلك نظرا للجهد والطاقة الكبيرة التي يتطلبها العمل الدؤوب. 

تستوقف يونغ رحلات الصيد الكثيرة التي كان يقوم بها برفقة اصدقائه من عرب الأهوار او حينما يشاهد الآخرين في مواقف مشابهة. عن الصيادين وطيور البجع يقول: \”إعتاد عرب الأهوار على دفعي لصيد أكثر الطيور ألفة في الأهوار: البجع. لكني أرفض ذلك باستمرار. فالبجع طائر مسالم، وذو مظهر جليل يسهل صيده، ويشبه إطلاق النار على البجع اغتيال حشد من الرهبان\”. 

من جهته، فإن ولفريد ثيسيغر في كتابه \”عرب الأهوار\” وبعدما يصف بشيء من الاسهاب \”الطرادة\” وهي مشحوف من الحجم الكبير، يقول \”بعد سنين في اوسلو شاهدت مراكب اسكندنافية ترمّم وتصان هناك فذكّرتني على الفور بالطرادات في الأهوار، فكلا النمطين من الزوارق له البساطة نفسها المحببة في تفكير صانعها وتنفيذه\”. 

ربما وجه الشبه، أن سفن وزوارق الفايكينغ لم تكن تعتمد الشراع وسيلة مناسبة للتنقل، بل تعتمد التجديف بالدرجة الاولى، وذلك من اجل ضمان عامل المفاجئة للانقضاض على الاهداف التي يطلبها قراصنة البحر \”الفايكينغ\”.

اما الليدي درور وحينما تذهب في احدى رحلاتها الى عمق الأهوار في النصف الاول للقرن العشرين وتشاهد اقراص \”المطال\” ملصقا على جوانب الصرائف من الخارج تكتب \”وغالباً ما تجد صفوفاً من أقراص الوقود البنيّة اللون المسطّحة الرقيقة ملتصقة على جدران الصريفة الخارجية لتجفيفها. وهذه تصنع من خليط روث الجواميس مع القصب المفروم\”. فحتى هذه التفصيلة البسيطة لم تفلت من التقاطات درور وزملائها من الرحالة الذين زاروا الأهوار. 

عالم البيئة الشهير كافن ماكسويل يسجل انطباعه الاولي عن شكل العقال بهذه العبارة الملفتة \”العقال هو عبارة عن التوائين كالحية يتوّجان الرأس.. ويشبه العقال التواءات القمة في اللولب المعدني البسيط\”. كيف للعقال ان يدفع من يشاهده الى استحضار التواءات الحيّة؟! والتواءات اللولب المعدني في جزئه الاعلى!.

ماكسويل ذاته يصف نفسه حينما وضع في موقف لا يحسد عليه اثناء تناوله الطعام متربعا على الارض، فيصف تساقط حبات الرز من يده حينما يريد ايصالها الى فمه \”وكانت حبات الرز تتساقط من يدي لتستقر بين فخذي في فسحة المشمع السميك الذي فرشه الخدم قبل احضار الطعام، وكأن هذه الحبيبات في طقطقاتها على المشمع زخات مطر على شوارع لندن\”. 

ما تقدم ليس الا نماذج لكثير من الالتقاطات والتوصيفات الظريفة التي وثّقها الرحالة والمستشرقون عن الأهوار.

gamalksn@hotmail.com

إقرأ أيضا