السرد ممتزجاً بالألوان

الحكايات عالم شاسع، باتساع الحياة، ومُركّب كالإنسان وأفكاره، يمكن لها أن تحتوي كل العناصر التي تطالها، أو لا تطالها الحواس، كما يمكن لها أن تشتمل بين ضفتيها بحراً من الخيال.
وبما أن الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً هي فنون حكائية تسعى لإعادة إنتاج الواقع من خلال التخييل اللغوي؛ لهذا فهي تستعين بكل تمثيلات الحياة وتقنيات فنونها وأنشطتها الموحية لبلوغ هدفها. ومن بين التقنيات المميزة التي استثمرتها هذه الفنون: السرد بمحاكاة الرسم، وكتابة القصة من خلال صناعة مشهد حكائي تشكيلي بلغة ملوّنة، مفعمة بالرمزية، حيث يغدو للألون واللمسات والعناصر المرئية دلالاتها الحكائية الغنيّة، كما هو في اللوحة المرسومة.
قصص عديدة تدور أحداثها داخل لوحات فنية، وتتحرك شخصياتها في إطار اللوحات فقط، فتشكّلها خطوطها وألوانها، وتخضع لمنطقها السردي. وبعضها يدخل الرسام ضمن شخصياتها، فتسهم فرشاته في تحريك السرد وصناعة أحداثه.
تمتلك الألوان والعناصر التشكيلية طاقة دلالية يمكن لمتذوّقي فن الرسم وخبرائه الكشف عن إيحاءاتها، فإذا دخلت في إطار سردي ستضاف لها مهام أخرى، في سياق بناء القصة وتوسيع منظورها التمثيلي. فالرسم كما هو معلوم من الفنون المرئية، ويمتاز بخصوصيته البصرية في التواصل مع المتلقي، في حين تتصل الفنون السردية بمتلقيها من خلال طبيعتها الكلامية، المكتوبة أو المقروءة. لذلك فإن استقدام تقنيات فنٍ مرئي إلى فنٍ محكي، على سبيل التجريب والتحديث، سيحقق إبدالاً جمالياً على مستوى الصورة الحكائية، واقعية كانت أو متخيّلة، ويمنحها ظهوراً مفارقاً في المسار القصصي.
وقد أفادت الفنون السردية من فن الرسم، من خلال استدعاء تقنياته المختلفة وأدواته، كالمزج اللوني والكولاج والدلالة الرمزية للأشياء وغيرها. وفي سياق ذلك لفت نظري نص سردي، صنّفه كاتبه «عماد أبو حطب» على أنه «قصة قصيرة جداً»، وعنوانه «اللوحة الأخيرة»، قال في متنه:
«نظر الرسام إلى اللوحة المنتصبة على الحامل… التفت صوب ألوانه، وخاصة اللون الأحمر القاني. حينما اقترب ليمسك الفرشاة تذكر أن أصابعه قد قُطعت. نادى على زوجته، وطلب منها أن تدهن اللوحة باللون الأحمر، ثم تثبّت أصابعه المقطوعة عليها».
وهنا تأخذ اللوحة واللون الأحمر والأصابع رمزية عالية في متن القصة، وتثير في ذهن القارئ والناقد تساؤلات إبداعية عديدة، سيحاول إيجاد أجوبة لها مما توحيه رموزها. ويدخل العنوان في بناء دلالة القصة من الوهلة الأولى، فهذه هي اللوحة الأخيرة للرسام، والرسام يجسد حالة إنسانية حساسة، مفعمة بالحيوية ونابضة بالرؤى الجمالية. وقطع أصابع الرسام يشير إلى كبتٍ وحجرٍ ومنعٍ من نوعٍ ما، ملوّث باللون الأحمر، المختلط بالدم القاني، ربما نتاج الحروب والبشاعة التي يغصّ بها العالم، حتى تكاد تقضي على آخر أمل يمكن أن يلتمع في أفقه. وبناء فعل القطع للمجهول يؤكد هذه الفرضية، إذ أن مجهولية الفاعل توسّع دائرة الاتهام لتطال كل ما يحيط بالشخصية. وأن يختار لأصابعه أن تلصق باللوحة، إنما هو تشبّث بآخر ما تبقى من هذه الحياة رغم دمويتها. ولا ننسى أن هذه اللوحة لم تكن حمراء، بل كانت تحمل ألوان الرسام على اختلافها، لكنه طلب من زوجته ـ بما تشير إليه من دلالات أنثوية ـ أن تدهنها بالأحمر.
القاص يطلب ـ ضمنياً ـ من المتلقي أن يقرأ القصة ويجسّد اللوحة الناتجة عنها ذهنياً: «فضاء مدهون بالأحمر القاني، وأصابع منفصلة عن كفّها وملتصقة بهذا الفضاء». وربما يمكن للمختصين أن يستنبطوا من هذه اللوحة قراءات وتأويلات تشكيلية غزيرة، لكن ما نقرؤها فيها أنها تهدف إلى توجيه إدانة شديدة لكل أشكال العنف الذي يحاول قطع علاقة الإنسان بالإبداع، تبعاً لرؤيةٍ قاصرةٍ وضيّقة، لا تفقه حقيقة الحياة ومواطن الجمال التي يجب على الإنسان البحث عنها.
alidawwd@yahoo.com

إقرأ أيضا