في مثل هذا اليوم

صبيحة الثامن عشر من سبتمبر، قبل 13 سنة بالضبط، كنا على طابور البعث بضريبة الدم، وان تتحول كل قصص الذين سبقونا من ضحايا البعث الى واقع حال تلمسنا به مشاعر الاعتقال والقهر والاذلال، ومن ثم الاعدام وخوف الجميع منك وخوفك المتبادل ايضا من الجميع. الكل يخاف منك، وانت تخاف من الكل في جمهورية الموت التي لم تزل صفتها من بين الجمهوريات حتى الان، وان نختلف بالمسببات، لكن الموت واحد. في مثل هذا اليوم بالضبط شنت على منزلنا في مدينة الصدر آنذاك غارة من مديرية أمن صدام، كما هو متعارف عليها آنذاك. لا داعي لوصف عجرفة اصحاب البساطيل الحمراء وشواربهم ولكناتهم وسيل سبابهم وشتمهم المستندة على عناوين الخونة والمجرمين واعداء السيد الرئيس. من عاش زمن البعث واعيا سيعذرني بالاختصار لتفاصيل مشهد اعتقال على يد زمر البعث الاجرامية.
في مثل هذا اليوم تحطمت حياة اسرة بكاملها، ابتدات من لحظة رفس باب منزلنا ليتوج التحطيم في ذروته بعد سنة من تاريخ 18 /9 / 1999 بتنفيذ حكم الاعدام بحق اخي رياض كاظم وابن عمي وزوج اختي بالوقت ذاته نزار عبود، وتبعهم لاحقا ابن خالتي حسن فالح الذي تمكن من الهرب لاشهر معدودات ليس الا عن هذا التاريخ المشؤوم. أُعدموا جميعا في النهاية، وما بين الاعتقال والاعدام قصة اعتقالات اخرى لابي واخي وهرب من تبقى من الاسرة من النساء والاطفال، ناهيك عن اعتقالات بالجملة لعدد لا يحصى من شباب اخرين، ومن يُحتمل ان له صلة من قريب او بعيد بكل شخص من الشهداء الثلاثة.
المشهد التالي في القصة موثق تلفزيونيا بعد 2003، البحث عن اطلال الارواح التي تعذبنا من اجلها حبا وخوفا منها في ان واحد في رفات المقابر الجماعية، تحديدا مقبرة الكرخ بابوغريب وجدنا الثلاثة جنبا الى جنب، في عملية دفن بدائي مبقية من اجسادهم النزر اليسير من بقايا معالم ادمية وهيكل عظمي ممتاز يكفي لان نفرح بوضعه في تابوت وحمله الى النجف، بعد ان رأينا اخرين كثر وهم يائسون بالبحث عن شيء  يذكر من بقايا احبتهم، لتكون شاهدا على البكاء عليهم عند القبر.
قصص غرابة البعث في فظائعه وعجائبه لا تنتهي في قاموس غينيس للاجرام العالمي.
المحصلة ان العالم تغير من حولنا في هذا اليوم. ولا زالت اثاره لهذه اللحظة علينا جميعا. صار لدينا بعد 2003 تقسيمات عديدة بين الضحايا والجلادين انفسهم
مثلا شهداء من 1963 الى 2003 فقط لهم حقوق ومئات الاف الابرياء الذين سقطوا بعد ذلك هم شهداء درجة ثانية.
البعث نفسه، بعث صدامي وبعث عادي وبعث مزدوج من النوع الاول والثاني في الدولة نفسها، الان وبعث لا احد يعرفه بالضبط يسعى الى اسقاط العملية السياسية. البعث من النوع الاخير، تحديدا فزاعة رائعة للحكومة وحلفائها لتهديدي انا الضحية قبل 13 سنة. هم يعلمون ألمي من البعث فينكؤون جرحي السرمدي منه عاطفيا لانتفض واقول: لا، واعيد انتخابهم مرة اخرى لطرد شبح الماضي.
اجزم ان ملف البعث في العراق شائك جدا، والجميع يحاول ان يزيده عتمة وظلمة لتشويش الرؤية اكثر فاكثر، ولتستمر المهزلة اطول وقت ممكن بحق هذا الشعب.
أرى السياسي اليوم.. مرة يسرقني باسم المشروع الطائفي، ومرة يقتلني باسم البعث والقاعدة، ومرة يعتقلني باسم الديمقراطية والترخيص الامني. لا استقرار في هذا البلد ما لم يحل ملف البعث من جذوره، وشخصيا ساكون مساعدا في ذلك وبكامل قناعتي. وقلتها سابقا وساعيدها اليوم حبا بالحياة وبهذا البلد واكراما وعرفانا لدماء كل الشهداء الذين سقطوا على هذه الارض.
ايها البعثي: ايها الانسان قبل كل شيء يا من كرهت وراقبت وتآمرت واشتركت وساعدت وعذبت وقتلت اخي..لا استطيع ان اقول انني احبك ولكنني اسامحك على ما فعلت. ان شعرت بالذنب الان وتريد التعويض، فالواجب الاخلاقي يتطلب الاعتذار العلني والتبرؤ من اي نشاط ضد الحياة.. اطلب منك حب العراق وناسه جميعا، وان اصررت مثلا على تعويضي بشيء ساطلب منك امرا واحدا فقط؛ أزرع شجرة واسقها في اي بقعة تشاء وراقبها جيدا ستعلمك الكثير من دروس الحياة.

إقرأ أيضا