الاستشراق.. سينمائيا

أستجيب لأصدقائي بإخلاص. أستمع لهم كأنهم ينطقون بفكرتي لأناقشها رفضاً أو قبولاً. هكذا استمعت إلى كلمات السينمائي زياد تركي وهو يحدثني، بحرقة، عن استمرار تلقي الغرب لأي منجز سينمائي قادم من الشرق بعُدّة الاستشراق المقيتة. ليس فقط تلقي المنجز فحسب، بل يصل الأمر إلى احتفال كبير به وبصانعه. ولحديث زياد مناسبة؛ فيلم خليجي أنجزته امرأة. لم أشاهد الفيلم بعد، لكن الحوار الذي دار عن تلقي الغرب لهذا الفيلم مع زياد يحرك بداخلي رغبة أصيلة للكتابة الآن.
إنه صراع؛ وهو صراع حقيقي. إذا ما تحركت بداخلنا الرغبة في بناء علاقات طبيعية ومتوازنة مع الآخر. هو صراع تمت فيه إدانة الآخر – الغرب – في كونه أعد العُدّة سلفاً لفهم الشرق وتلقيه، كما عند ادوارد سعيد. وهي إدانة كنا قد احتفلنا بها ولسنوات طوال. لكني أقف الآن عند لحظة الطرف الآخر في المعادلة، نحن! كم من صناع الفيلم عندنا أدركوا لعبة الاستشراق ومن ثم احتفلوا بها؟ كم من صناع الفيلم عندنا صمموا أفلامهم من بداية مراحل الانجاز كي تتلاءم مع \”التوقع\” الغربي لها؟
كانت جولتي في المهرجانات السينمائية الدولية والإقليمية، التي بدأت قبل عقد من الآن، سمحت لي بالاقتراب عن كثب من آليات الصناعة والتلقي. كنت أشاهد وبأم عيني إملاءات الممول الغربي – في سياق النصح والتطوير – على الكيفية التي \”يجب\” أن ينفذ بها الفيلم المؤمل انجازه من صانع عربي/ شرقي. هذا الصانع الذي من المفترض أن يكون متبنيا لرؤيا ولمقولة سينمائية واضحة. لهاث مُهين في أحيان كثيرة خلف من يمسك بدفة التمويل السينمائي كذلك إمساكه المطلق بالدفة الأخطر: التوزيع العالمي للفيلم!
كثيرة هي الأفلام التي أنجزت وعرضت، فازت بجوائز ولم تتوقف المهرجانات عن دعوتها، لكن الموزع الغربي يبتسم وهو يهنئ الصانع دون أن يهتم لتوزيع الفيلم. هنا فان لتشخيص مفاهيم الاستشراق دلالة (عبر الصورة السينمائية).. أصبحت تشبه الـ\”همّ\” السينمائي عند الصانع المذكور، كونه حتما سيمسك باهتمام الموزع ومن ثم المتلقي الغربي. وهذا تحديدا ما يحدث في مجمل المنجز السينمائي الإيراني في العقدين الأخيرين. كلنا يذكر لقطة رمي الأطراف الصناعية على معاقين في واحد من المشاهد المركزية في فيلم \”قندهار\” للمخرج الإيراني محسن مخملباف، أي مجانية وأي بكاء وأي عطف؟ إنه الشرق معاقا ينتظر طائرة – بالضرورة غربية – ترمي أطرافاً صناعية كما المطر! لا صورة أشرس \”دلالياً\” من هذه على مقدار العوق الذهني في الصناعة وفي التلقي على حد سواء.
بينما نجد مخرجاً، من ذات الثقافة كان قد وثب بثقة الرائي، ليقلب المعادلة على الصناعة وعلى التلقي على حد سواء. وهو المخرج الإيراني عباس كيارستمي، الذي أخرج، وبذكاء حاذق، جسد الشرق من ثوب الاستشراق الغربي وألبسه جلباب الرؤيا والبوح وليثبت أن قانون الاستشراق الغربي مرتبط أيضا بمقدار الانبطاح الذي يمارسه الصانع الشرقي نفسه. إنها معادلة واضحة المعالم، شرط توفر الحرفة والمهارة والرؤيا لدى الصانع بالطبع. عبر سؤال وجودي مفتوح في فيلم طعم الكرز – 1997، نجح كيارستمي في تعبيد الطريق لكل مهموم بالصناعة السينمائية في الشرق في كون الإصرار على الرؤيا والمقولة هي من سيزيح التاريخ الصلب للتلقي الاستشراقي.
أعود لحواري مع السينمائي زياد تركي. فأقول، إن زمام المبادرة بيدنا! من يصنع الفيلم هو من سيحدد منظومة التلقي عندنا وعند الآخر. قانون صناعة الفيلم ومعرفة الذات الصانعة لنفسها من سيحدد كم الخذلان الاستشراقي وكم إعلان الرؤيا والمضي بها إلى لحظة التوازن التي نبحث عنها… أو هكذا اعتقد.

إقرأ أيضا