المسكوت عنه في منظمات المجتمع المدني!

بعد الغزو الأميركي للعراق بشهور قليلة، فاتحني صديق من ضمن الحلقة الضيقة التي أحاطت في حينه بمكتب بريمر في أمر اطلاق منظمة مدنية تعنى بالشان الاجتماعي والثقافي، على خلفية تجربتي في العمل في \”المنظمات الشعبية\” ابان النظام السابق، وكان ردي أن الأمر مختلف تماما، وأن ليس في امكاني القيام بعمل كهذا في ذلك الوقت، خاصة ونحن في ظل سلطة احتلال وغزو أجنبي للبلاد مما يدفع الى التريث في اتخاذ قرار في مثل هذه الأمور الشائكة.
آنذاك كان عدد ما يسمى بـ \”منظمات المجتمع المدني\” لا يتعدى أصابع اليدين، لكن ما ان مرت بضعة شهور أخرى، حتى تضاعف عددها مرات ومرات، ثم أخذت تتناسل طرديا مع مرور الأيام الواحدة تلد أخرى واثنتين وثلاثا، حتى وصل عددها اليوم الى ما يقرب من خمسة عشر ألفا وهو عدد ضخم بالقياس الى تجربة شعب خضع لحكم شمولي على مدى عقود!.
ومع ذلك، فقد سمعنا من يدعو الى انشاء \”مليون منظمة مدنية\”، أي بمعدل منظمة مدنية لكل30  عراقيا، ولم تأت هذه الدعوة جزافا، بل أدرجت في تقرير لما يسمى بـ \”المفوضية العامة لمؤسسات المجتمع المدني العراقي\” التي أفادتنا أيضا في تقريرها هذا \”ان المؤسسات المدنية في العراق تستغل من قبل سماسرة على مستوى عال… وأن بريمر خصص 70 مليون دولار (في حينه) لتنمية المنظمات المدنية العراقية، لكن أفرادا يعدون بالأصابع سيطروا على مبالغ ضخمة منها\”!.
وما لم يتناوله التقرير، هو موضوع المنح والهبات التي قدمتها طيلة السنوات العشر العجاف التي مر بها العراق بعد الاحتلال. جهات دولية أخرى مثل الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية وبريطانيا وفرنسا والمانيا وكندا والسويد وهولندا وكذلك ايران وتركيا وقطر والسعودية والامارات والكويت وهلم جرا، وكذلك مؤسسات ومنظمات ووكالات اجنبية تجاوزت بمجموعها تخصيصات بريمر بكثير. ومعروف أن كل تلك الجهات المانحة لم تقدم ما قدمته لوجه الله، ولا لأن القائمين عليها أناس طيبون يقدمون خدمات انسانية مجانية للمقهورين في العالم، انما لهذه الجهات أهدافها السياسية والاقتصادية والثقافية التي قد تصب في النهاية في غير صالح الأمن الوطني، لكن هذه الأمور ظلت في اطار الحديث المسكوت عنه جهارا، لسبب أو لآخر، رغم أن التداول فيها كان يتم في المجالس الخاصة وداخل حلقات المعنيين، حتى كشفت السفارة الأميركية قبل فترة قصيرة وفي موقعها على الأنترنيت أنها مولت 175 منظمة من منظمات المجتمع المدني بمبلغ 75 مليون دولار، وهو – كما تقول السفارة – جزء من ميزانية تبلغ740  مليون دولار مخصصة لدعم المجتمع المدني العراقي لهذا العام!.
هذه الفضيحة دفعت بعض البرلمانيين لأن يعبروا – وعلى استحياء!- عن امتعاضهم من الأمر، وعلى الأصح عن امتعاضهم من انكشاف الأمر للمواطن العادي. ثم مرت الفضيحة ونسي الناس امرها، وعادت مسألة تمويل هذه المنظمات الى زاوية الحديث المسكوت عنه.
وتسربت معلومات أخرى، ليس عن مصادر التمويل المشبوهة فحسب، بل عن كيفية التصرف بهذه الأموال الضخمة من قبل الجهات المستفيدة منها، وهل أنها تخدم مصلحة البلد وتعمل على تطوير الواقع الاجتماعي والثقافي الماثل بالفعل، وأنها تنشر قيم الديمقراطية وتعرف بحقوق البشر وتسعى لتحريرهم من قيود الاستغلال والتبعية الاقتصادية؟ وهل صحيح أن جهات مانحة وفي مقدمتها الوكالة الأميركية للتنمية أقامت \”ورشات عمل\” لـ \”اعادة تأهيل المجتمع العراقي\” في أكثر من عاصمة غربية بالتعاون مع عدد من المنظمات المدنية العراقية، ودون مرورها عبر القنوات الرسمية، وأنها كانت تختار المشاركين مباشرة من قبلها لغرض تدريبهم وتأهيلهم ليكونوا \”ناشطين مؤثرين في قطاعاتهم!\”. وما هي ضمانات الرقابة والمساءلة والشفافية في مثل هذه الحالات؟ وهي ضمانات يفترض ان تكون واضحة ومعلنة للمواطن العادي كي يستطيع التعامل مع تلك المنظمات التي تزعم خدمته والدفاع عنه!.
لقد سمعنا الكثير مما يمكن أن يقال ولا يقال: قيل ان بعض الحيتان الكبيرة التي تزعمت او وقفت وراء تأسيس منظمات معينة تسلمت منحا من جهات دولية وغادرت العراق بما خف حمله ومن دون حساب.. وقيل أيضا ان بعض المنظمات تعلن عن نشاطات وهمية أو فعاليات عديمة الجدوى ليس لخداع الجمهور فقط انما لخداع مموليها أيضا.. والا ما معنى اقامة دورة لتعليم الموسيقى في قرية نائية لا يحصل فيها الطفل على كفايته من الغذاء؟!. وما أهمية اقامة معرض عن الحياة في الولايات المتحدة  لمواطن لم يتعرف الى ثروات بلده أو مواقعها التاريخية؟. ووصل الأمر على حد ما يؤكده زميل متابع أن يعمد مسؤولون في منظمة تدافع عن حرية الاعلام لفبركة صور لنشاطات وفعاليات وهمية، وارسالها الى الجهات المانحة أملا في كسب المزيد من المال!.
قد يكون في بعض ما يقال نوع من المغالاة، لكن الحديث المسكوت عنه هو أكثر بكثير مما قلناه ونقوله!.
ومادام الشيء بالشيء يذكر، فقد اسرني صحفي فنزويلي صديق مطلع على أوضاع المجتمع المدني في أميركا اللاتينية أن وكالة المخابرات المركزية CIA مولت مشاريع وورشات عمل ودورات تأهيل وتدريب لناشطي المجتمع المدني في القارة اللاتينية تحت ستار \”عملية تطوير مجتمعات أميركا اللاتينية\”، وان الهدف الحقيقي هو زج هؤلاء \”الناشطون\” في نشاطات وفعاليات متعلقة ببلدانهم، تخدم في محصلتها التوجهات الأميركية في السياسة والاقتصاد والثقافة، وقد تمتد الى نشاطات استخباراتية وسياسية لاحقا!.
أضع يدي على قلبي، وأنا أنقل هذه المعلومة الموثوقة، وتنتابني خشية من أن الـ CIA  عملت وتعمل على القيام بمشروعات مماثلة في العالم العربي وفي العراق تحديدا!.
والشيء بالشيء يذكر!

إقرأ أيضا