العبث والزحف المقدس

عبث. المفردة الوحيدة في القاموس التي تختزل المشهد السياسي العراقي الآن. شعب يتظاهر احتجاجا على الرواتب التقاعدية للبرلمانيين وامتيازات الرئاسات الثلاث. حكومة تقمع الشعب المتظاهر رغم دستورية تظاهراته وسلميتها. اعتقالات بالجملة. تفريق للتظاهرات من قبل الأجهزة الأمنية يُذّكر بان الاحتلال أطاح بالدكتاتور، لكنه أبقى على الدكتاتورية بكل تجلياتها. برلمان (مطنّش) ولا همّ له سوى إدارة خلافات الكتل وتعطيل القوانين التي تخدم مصالح الناس. تواطؤ بين الحكومة والبرلمان على تسويف مطالب الشعب، بل وإمعان في النهب المنظم لثرواته من خلال بناء مجمعات سكنية للبرلمانيين تكلف أرقاما فلكية تضاف الى ارقام الرواتب التقاعدية والامتيازات الاخرى. ترميم اسنان نائب في البرلمان تكلف الشعب آلاف الدولارات، وترميم (…) نائب آخر تكلف الشعب عشرات آلاف الدولارات. جيش عرمرم تجاوز تعداده المليون منتسب، مهمته تطويق المدن وغلق الطرقات بوجه الناس، بعد التفجيرات الدموية التي تحصد ما تحصد من الأرواح وليس قبلها، إضافة الى مهمته الأساسية، وهي منح أصواته في الانتخابات الى جهة ما، جهة تقوم بحمايته وتحرص على عدم تعرضه الى أية مسائلة نتيجة عجزه عن أداء واجبه في حفظ الامن. انه تخادم مصالح بين رجل واحد من جانب ومليون رجل من جانب آخر. حكومات عدة داخل الحكومة. كل ميليشيا حكومة بذاتها، تأمر وتنهي. تستدعي المواطنين الى مكاتبها. تحاكمهم وتصدر أحكامها الفورية بحقهم. مشهد يعيد الى الأذهان محاكم التفتيش التي يخجل منها التاريخ الاوربي الى اليوم. متنفذون يعيثون فسادا في الأرض. يمأسسون سرقة ثروات العراق ويشرعنون عقود المشاريع الوهمية. السنة المالية توشك على نهايتها وميزانية المائة وعشرون مليار دور توشك ان تنتهي معها. أين ذهبت هذه الأموال؟. هل رأيتم شارعا جديدا؟. مصنعا؟. مجمعا سكنيا؟. لاهذا ولا ذاك. ليست هذه هي أوجه صرف الميزانية العملاقة. ثمة انجاز أكبر وأهم. العراق في المرتبة السادسة عالميا من حيث عدد الأثرياء. مليارات الشعب تدخل في حسابات السياسيين الموجودة في مختلف مصارف العالم. الشعب يلوذ بطقوس المعتقد الديني والمذهبي هربا من جحيم الحياة اليومي. الملايين يزحفون سيرا على الأقدام نحو مراقد الائمة رغم التفجيرات بحثا عن الخلاص. انه غضب كامن تحرص أحزاب الاسلام السياسي على تنفيسه بهذا الطريقة، خوفا من أن ينفجر بوجهها، حينها سيبدأ حتما فصل جديد من مسلسل ثقافة السحل في الشوارع.

عبث. المفردة الوحيدة في القاموس التي تختزل مسلسل الموت المجاني اليومي في العراق.. أيضاً. موت يختطف حياة طلاب المدارس والشباب في المقاهي وعمال المساطر. موت أرعن يختطف حياة النساء والرجال والاطفال. موت لا يفرق بين مسلم ومسيحي ويزيدي وصابئي. لا يفرق بين عربي وكردي وتركماني. لا يفرق بين شيعي وسني. الموت المجاني العبثي هو الفعل الوحيد الذي يذكر العراقيين بوحدتهم. أصابع الحكومة جاهزة لتمتد متهمة تنظيم القاعدة بهذه التفجيرات. البرلمانيون يسابقون الحكومة في ذات الاتهام. التفجيرات منظمة ومتزامنة ودقيقة وممتدة على مساحات واسعة من مدن العاصمة. دقة لا يمكن لأي تنظيم ان يحققها دون دعم لوجستي من الكتل السياسية المتنفذة عبر حرية حركة مواكب السياسيين بين المدن، أو عبر رجالات هذه الكتل في الأجهزة الأمنية. اللعبة أصبحت أكبر من اللاعبين. التفجيرات تصب في مصلحة الأحزاب الطائفية التي توظفها من أجل خلق حالة إصطفاف طائفي يحقق لها فوزا مريحا في الانتخابات. لكن اللعبة دخلت شوطا جديدا. شوط المواجهات المسلحة التي شهدتها مؤخرا أكثر من منطقة في اكثر من محافظة. وفي حال استمرار هذه المواجهات، ستكون عدوى القتال في المدن السورية قد انتقلت الى مدن العراق، حينها ستكون الموصل تحت سيطرة (داعش) دولة العراق والشام. الحلة أكثر مدن الفرات الاوسط ترشيحا لهيمنة المجاميع المسلحة. ديالى قاب قوسين أو أدنى من تمدد تنظيمات الاسلاميين المتشددين لاعلان دولة بملامح النصرة أو غيرها.

اللعبة الطائفية انتهت. وصلاحية العبث كذلك. الايام القادمة حبلى بخيارين أحلاهما مر بالنسبة للحكومة والبرلمان والكتل الثلاث التقليدية، التحالف الوطني والقائمة العراقية والتحالف الكردستاني، الاصلاح الحقيقي أو التغيير الشامل. ليس ثمة خيار ثالث أمام الشعب الذي سيغير وجهة زحفه المليوني المقدس .. قريبا جدا.

إقرأ أيضا