بيضة على الشاطئ: الحياة التي لم تحدث

مجموعة (بيضة على الشاطئ) قائمة على الحلم.. ليست تقنية الحلم التي تشكل نسيجا متوترا من الغرابة واللا منطق والمفاجآت المركبة فحسب، وإنما الحلم نفسه بحضوره التقليدي وملابساته المعتادة كحالة أو تجربة يعيشها الإنسان أثناء النوم.. لكن ما يعطي (بيضة على الشاطئ)، جمالها الخاص أن الحلم رغم ترتيباته ودوافعه البديهية في المجموعة يُخلق في طبيعة أخرى، مغايرة، تتجاوز في رأيي مغامرات سابقة متداولة لانتاج الأحلام.. (شريف صالح) يخبرك بوضوح تام أنه يحلم، ويشرح لك كيف يحلم.. يؤكد لك أنه كان يعيش في واقع يومي عادي، مفهوم ومستوعب ظاهريا ثم نام، والآن يحلم.. لكن ما يحلم به ليس ردود أفعال مخادعة لتأثيرات هذا الواقع، ولا صيغ مبهمة من التوقع لنتائج ما يحدث في اليقظة، ولا حتى معالجة لا إرادية للتخلص من آلام الوعي.. حلم (شريف صالح) ينسف الحدود الحالية للتجربة ليبقيها مفتوحة على تاريخها، وعارية بخفة حادة أمام امتدادها المكاني والبشري عبر الزمن.. يتحول السرد إلى واقع حقيقي، محرض، دال على كافة التساؤلات والاحتمالات، بينما تذهب الحالة اليومية المعاشة إلى الخلفية ليتم تثبيتها كنقطة انطلاق تتناسل منها نقاط لا آخر لها.. يحوّل (شريف صالح) الحلم في مجموعة (بيضة على الشاطئ) إلى استفهام كوني يتوحد ويتصارع داخله كل ما تم إخفاءه وقمعه وترويضه في مسارات مراوغة وأنساق ملتبسة ومتشابكة.. ليس فقط في نطاق عناصر الوجود المباشرة، وإنما عبر تحويل ثغرات وهوامش تلك العناصر إلى أفق يُشيد في فراغه الوجود كما لم يفصح عن نفسه من قبل.

(كنت أحمل في يدي كيسا أسود به أشياء غريبة. ماذا بداخله؟ حتما طفلي يستلقي منكمشا يتأرجح وسط ماء قليل في قاع الكيس كأنه سمكة جمبري خجول).

الجنين المهدد بالموت يدفع بأبيه نحو رؤية قاع العالم حيث نتفحص ما يشبه ملحمة كابوسية في المنام عن وقائع مدفونة لموت الحياة.. الكبار في المقبرة لم يحصل الطفل على فرصة للحديث معهم.. (ليس له أذن كي يسمع حكاياتهم النادمة على الوجود، وعدم الوجود).. هل هي خسارة أم أنه مكسب وميزة.. تفادي الحصول على التاريخ أم أنه كان من الضروري وجود صلة ما بين كائن لم يكتب له الوجود، وبين الوجود نفسه.. لكن يبدو أن الأمر يتجاوز الأهمية وغيابها إلى بلوغ انعدام الفارق دون أن نستبعد بالتأكيد تلك الرغبة المدهشة ربما في استغلال موت الجنين لإبداء الراحة من عدم مغادرته الموت أصلا .. كأن الحالم يؤكد على إدراكه ما كان ينتظر الجنين لو عاش، وسيكون مكان دفنه هو الوسيط الذي يمرر من خلاله ذلك الإدراك.

الجنين الميت إذن ليس مجرد شيء فاقد للحياة، بل يعيش متخذا نفس الروح التي يحملها الماء ورائحة السمك وخشخشة ميدالية وقصاصة ورق.. أشياء الأب أو ينبغي أن نقول هنا أنها متعلقات هزائم الأب التي لا يمثل الجنين الميت إحداها بل أصبحت تخص الجنين أيضا ليس من باب أنها ما كانت تنتظره لو لم يمت، بل لأنها ربما السبب في موته قبل أن يكون الأب ذاته موجودا من الأساس.. هل هناك ما يشير إلى ذلك؟.. يقذف الأب الكيس الأسود في النهر مستعيدا لحظة فرح قديمة ليتأمله وهو يغرق مثلما كان يحدث مع الأشياء الصغيرة التي كان يرميها وهو طفل.. نتذكر أيضا تلك الجملة لحظة رمي الكيس: (أقذف بعنف الكائن الذي لم يكتمل).. لا يحتاج الأب للمزيد حتى يخبرنا أنه والجنين كائن واحد.. ذات لم تكتمل.. شيء ميت يرمى في الماء ويغرق.. جثة الجنين تقذف جثة الأب في النهر.. الأب لم يأت إلى الحياة وهو يعرف ذلك جيدا، بينما الجنين الميت كبر وصارت خبرته لا يمكن تحملها.. لهذا السبب فالأشياء الصغيرة الغارقة منذ زمن كانت حياة لم يسمح لها أن تحدث، أما الفرح المصاحب لغرقها فكأنه غفلة تضع سياجا من العمى، وتزرع أمانا وهميا عن القدرة على استردادها أو تعويضها.. هنا تتجلى كأحسن ما يكون علاقة تلك الأشياء بالجنين الذي في الكيس.. هل يمكن استرداده أو تعويضه.. ليس المقصود الجنين فقط بالطبع، وإنما حياة الأب التي لم يسمح لها أن تحدث.

أفكر الآن في خاطر قد يبدو غريبا.. لنعيد التأمل في محتويات الكيس: (بخلاف الجنين الميت، رائحة سمك، ميدالية، قصاصة ورق وماء).. الكيس ليس ذاهبا للرمي في النهر.. الكيس مأخوذ من النهر ويحمل أشياء قديمة.. أي غرابة في ذلك الخاطر؟.. ليس مجرد التكرار الإجباري للأحداث، والعود الأبدي للأرواح، ولكن في أسئلة من هذا النوع: أي نهر التقطت منه هذه الأشياء وما النهر الذي ستعود إليه ـ تذكر المكان المعروف للجنين قبل الموت ـ ولماذا حدث الالتقاط والرمي؟.. هل تمكن الأب في الحلم من استرداد أشياء طفولته التي رماها في النهر وهو صغير ثم اكتشف ـ أو أعاد اكتشاف موتها فذهب ليرميها ثانية؟.. هل الجنين الميت هو السبب في اكتشاف موت تلك الأشياء أو إعادة التأكيد على موتها، أم أن الجنين سبق موته مرات لا حصر لها ـ وبتجسدات مختلفة ـ وفي كل مرة يعود ليتم تأمل موته ثم إلقاؤه في النهر من جديد؟.. تساؤلات لا نهاية لها بينما أتجول بين حواف المنابع.

يخاف الأب من عثور الشرطة على الجنين وتحرير محضر ضده لأنه لم يدفنه في مدافن أجداده.. علينا أن نسأل أنفسنا إذن عن تعريف موت الجنين إذا ما كان له ارتباط بإنقاذه من العالم، وهل لذلك التعريف ارتباط آخر بإنقاذ الأب لجنينه من الوجود مع ميراث ذلك العالم المتمثل في موتاه السابقين حتى ـ أو ربما خصوصا ـ بعد الموت.. هناك سلطة تحرص على الاندماج مع الحياة ـ كما تراكمت في أبدان الأسلاف ـ والانتماء لها سواء كنت حيا بالفعل أو ميتا.. سواء جربت العيش أم انتهيت عند بابه.. سلطة تعاقب على مقاومة ذلك ومحاولة تضليله.. عليك ألا تنسى أن الجنين لم يمت حتى الآن.

تتأسس قصص المجموعة ـ وهو أساس لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يعطي انطباعا بالثبات والرسوخ، بل على العكس من الضروري أن يحيلنا إلى الإلهام غير المستقر ـ على توزيع الحلم داخل كل كيان ممكن.. حي وميت دون أن ننسى أنه لا يوجد حياة وموت في الحلم، بل لعبة تبدو ظاهريا أنها تتمسك بحركة عشوائية لتنفيذ قرار بعيد عن التأكد، ولكنها تسعى في حقيقة الأمر لجعل كل كيان يؤدي مهمته أو دوره في منح شعور أقوى وفكرة أكثر شغفا عن الميلاد والموت.. الرغبة في العثور على الحياة التي لم توجد، أو على الأقل ـ ربما ـ اكتشاف أي أثر لمبرر عدم حدوثها.

* كاتب مصري

إقرأ أيضا