العجوز والأوركسترا

كانت عينا العجوز تدمع وهي تستمع إلى الآلات تتصاعد في نشيجها، تدمع وهي تراقب ابنها منهمكاً بآلته، يضرب على أوتارها فيميل ويتمايل الهواء من حوله ألقاً وجمالاً باذخاً، العجوز التي جلست قربي في حفل اوركسترا الجامعة التأسيسي، كانت أمّاً عراقية مرّت بالحروب الثلاث بالتأكيد، وكلل الأسود المهيب أرديتها، خلتها وأمثالها لا يسمعون الموسيقى! خلتها وأمثالها قد هجروا فناً كهذا واعتبروه بطراً في عراق ينام على انفجار ويُصبح على موت، لكني كنت مخطئاً.

\”هذا أبني الي واكف على اليمنه\” قالت، تراءى لي من خلال اصابعها الراجفة وهي تشير على ابنها مشاهد ساعات طوال، كانت هذه الاصابع فيها لاهية باللطم على فقيد أو مسحوقة تحت أشغال البيت الشاقة أو منهمكة بالسهر والعناية على من ترعاهم من أهلها، هذه الكف المعروقة والعينان الشاحبتان، لكن الأليفتان كشجرة آسٍ ظلّت ترعى نجوم سهرة المساء التي أضاءت ليل البصرة، وجعلتني أمام حقيقة \”جمعية\”، لطالما حاولنا أن نُحبطَ أمالنا فيها، بأن الناس لا زالت تكترث للموسيقى، لا زالت تبحث عن المسرح والنغم الذي يهذب أرواحها ويسمو بنفوسها من واقع الحياة المرير، فكل الموت الذي لف اهلنا لم يقتل فيهم هذا الشغف، منظر العوائل التي تراصفت لبعضها كان يقول ذلك، الفرحة التي عمّت الحاضرين والوجوه التي غادرت مسرح عتبة بن غزوان غبطة، وقد غسلت الألحان صدورها من نشيج طويل يمر بالبصرة منذ فترة ليست بقصيرة، هذه الفرحة كانت تقول ايضاً: إننا بحاجة إلى هؤلاء الشباب المثابرين وإلى شغلهم الكبير.

الجميع كان منصتاً، الأرواح تشهق قبل الأنفس، العيون دامعة، والقلوب تدق بقوة، كانت جرعات مضطربة من السعادة والشجن، تتصاعد مع ضربات العازفين المهرة وهم ينشدون حباً واصالة وبراءة، خمس مقطوعات بهيجة حولت مساء تلك الليلة إلى عرس حقيقي بمقطوعات رائعة بعضها من تأليف فناني البصرة من طلبة كلية الفنون الجميلة. أكثر ما لفتني منها ما قدمته الفرقة من الحان الفنان الشاب الموهوب \”مهند مهدي\” بعنوان (الحلم المجهول) وما وضعه أيضا عبد الكريم حميد وعلي هاشم من جهود في بقية المقطوعات، فضلاً عن الجهد الاستثنائي لفريق الاوركسترا مجتمعاً والذي بدا عيداً للجمال الباذخ مستعيداً الارث الكبير للموسيقى البصّرية.

الهدية التي قدمتها الجامعة للمدينة متمثلة بفرقة الاوركسترا قيّمة ومؤثرة، مسؤولية الجميع المساعدة في رسوخ هذا الحلم وتطويره، خاصة الحكومة المحلية التي تؤكد دائما أن من اولوياتها تطوير الفنون في البصرة، هي فرصة لهم الآن لإثبات ذلك.

أملي أن أرى عروضاً ممنهجة للفرقة ومحددة بتواريخ معروفة، لأن الكثير ممن لم يحضر سيكون موجوداً ليستمتع بما يقدمه هؤلاء الشباب الرائعون.

\”الكف التي تلطم تريد أن تسمع النغم أيضاً\” هذا ما قالته العجوز أو لم تقله.

اسمعوا الموسيقى، جربوا، ستجدون ان الحياة ممكنة وبسيطة، وليست عرضة للموت فقط.

Alimahmoud83@gmail.com 

إقرأ أيضا