في تعريف الكتابة

أن تكون هناك

 في تعريف الكتابة يتذكّر الجندي مشهد اعدام نجا منه يوماً ـ ليس ثمة فرق واسع بين أن يتذكّر أو يتخيّل، في الكتابة تنحسر الفروق التي تبدو خارجها قويّة، ساطعة ـ في واحدة من ليالي عام 1987، قبل النهاية الباهتة للحرب بعام واحد، وتحديداً في جولة ليلية ضارية من جولات معارك شرق البصرة. عناقيد التنوير تنحت وجوه الجنود المرعوبة، تؤبّدها في الذاكرة، أقنعة يشظيها  الخيال. كان الكاتب وقتها جندي مشاة لم يتخط الثلاثين بعد، ولم يكتب شيئاً جديراً بأن يُسمى معه كاتباً، كانت الكتابة حلماً.

خوذة، وزمزميّة، وصفُّ رصاص، وبندقية كلاشنكوف آلية عيار 7,32 ملم روسيّة الصنع، إنها عُدّته في مواجهة النار التي تتفجّر في الجهات. أكثر من ساعة مرّت منذ استطاع الانفصال عن وحدته، وها هو يمشي وحيداً وقد ترك كلَّ شئ خلفه. لم يكن يفكّر لحظتها بالحياة وقد رأى في سنوات الحرب المريرة ما رأى، لم يكن يهيم في الليل من أجلها، كان مشغولاً بميتة أخفّ وطأة مما رأى، قابلة للوصف والتدوين، كما يموت الناس عادة.

من بين أصوات الانفجارات التي تهبّ وتنقطع سمع صوت عجلة، إنها سيارة إيڤا، من السهل معرفة ذلك، رمى بنفسه في أقرب حفرة قبل أن يكشفه الضوء، ما إن مرّت حتى رفع رأسه ونظر، في حوضها الخلفي رأى جنوداً ببدلات عمل، بدت له مدهّنةً، وقدور طعام كبيرة. إنها عجلة أرزاق، نهض سريعاً وركض نحوها بما بقي في جسده من قوّة، لمّا صار قريباً منها رفع يده محاولاً الإمساك ببوابتها الخلفيّة، امتدّت أكثر من يد، أمسكت به وسحبته إلى أعلى. صعد مفكّراً بالأيدي وهي تمتد، تبحث عن يده. إنه مشهد مؤجّل من مشاهد الحرب لا بدّ أن يكتبه ذات يوم، ففي الحرب كما في الكتابة يمكن للأشياء أن تحدث على نحو غير متوقع. 

لم يمرّ وقت طويل حتى سمع أصواتاً متداخلة، عنيفة ومنفعلة، تأمر العجلة بالتوقف. رأى الخوف مرّة أخرى يرتسم على الوجوه مع الضوء المتقطّع، قبل أن يسمع الأصوات تأمرهم بالنزول. واحدة من فرق الاعدام الجوالة، سيارتا قيادة مموّهتان، يقف قرب إحداهما ضابط لم يتبيّن رتبته بوضوح، بجانبه جندي حماية ببندقيّة، وأربعة من عناصر الانضباط العسكري يواصلون الصياح، أنزلوا الجميع وساروا بهم مسافة قصيرة، كانوا منفعلين، تتصاعد من أنفاسهم رائحة موت طازجة. أوقفوهم صفاً قرب تلّة ترابيّة بعد أن أمروهم بخلع خوذهم وبيرياتهم، التفت أحدهم إلى الضابط الذي أخذ يصرخ من مكانه متحدّثاً عن القتال، والخيانة، والوطن، حاول أحد جنود الصفّ أن يتحدّث، يدافع عن نفسه أمام الرائحة، لكن أقرب المسلحين إليه عالجه بأخمص بندقيته، ضربة سريعة على صدره شهق اثرها منحنياً إلى أمام. محاولة الجندي زادت من هياج الضابط فصاح من مكانه: تشكيل رمي. ركض عناصر الانضباط الأربعة للوقوف في صف واحد بمواجهة الجنود، صوّبوا بنادقهم نحوهم بعد أن عالجوا أقسامها. فوراً ودونما مقدمات سمع الجميع أمر اطلاق النار. حدث كلُّ شئ بلمحة خاطفة أضاءتها فوهات البنادق. لحظة يصعب معها الحديث عمن سقط أولاً، وعمن تأخر قليلاً في السقوط، لكن الكاتب كان هناك، تحت جنود الارزاق وقد تحولوا جثثاً تنزف فوقه، تواصل الحرب من الضفة الأخرى، بعضهم كان يشخر مثل ثور ذبيح. منذ تلك اللحظة ارتسم في ذهنه تعريف خاص للكتابة، له وحده من بين كتّاب العالم: الكتابة هي أن تكون هناك، الحي الوحيد في أخوّة الأموات.

في حرب طويلة بلهاء لا يعني الموت باباً تنتهي عنده الحكاية، الحرب والموت صنوان لغرابة مفزعة: لا حكاية ولا باب.

وفي أخوّة الأموات لا تنتهي الكتابة، ذلك ما تعلّمه أيضاً، إنها تشرب من مياه الحكايات حتى تروى، تأكل حتى تشبع، لكن ذلك ما يتراءى لك، فلا حدَّ لعطش الكتابة ولا نهاية لجوعها.  

الوجه 

 يُحكى أن جندياً قضى شطراً طويلاً من حياته يفكّر بالكتابة عن الحرب، من الطبيعي أن يكون قد عاش حرباً في فتوّته، رأى من ويلاتها الكثير، وسمع من أصواتها ما ظلَّ يلازمه سنوات طويلة، ما أن يخلو إلى نفسه حتى تُفزعه صرخة قديمة لجسد يُقذف في الهواء، يُرعبه انفلاق القذيفة لا ريب، لكن الصرخة تفزّزه وتُعيده للتفكير بالكتابة عمّا خبر وعاش. على امتداد عقود  تجمّعت بين يديه دفاتر كثيرة، دفاتر مدرسيّة ورقها مخطّط، وأخرى رسميّة بشعارات أعلى صفحاتها، وثالثة صغيرة للملاحظات اليوميّة كان يشتريها من أقرب قرطاسيّة حين تحاصره فكرة ما وليس ثمة ورقة بين يديه. ملأتها أفكار سريعة، وأرقام، وتعليقات، وتواريخ، معلومات عن أسلحة وأماكن وشخصيات وسواها كثير مما يعدّه أرضاً ضروريّة لبناء عمارته. في كلِّ مرّة يحاول فيها الشروع بالكتابة تواجهه مشكلة بدت بسيطةً أول الأمر لكنها مع كلِّ محاولة جديدة تكبر مثل كرة الثلج وتنحدر باتجاهه حتى تشلَّ يده عن الكتابة، إنها مشكلة الوجوه، وجوه المحاربين بالطبع وهي تتشابه فيما بينها حتى لتبدو وجهاً واحداً ترتديه آلاف الرؤوس، يبدّل الأسماء ويغيّر الأماكن، ينتقل من حرب إلى أخرى ومن عصر إلى عصر، يعبث بالوقائع ويحوّل التفاصيل في محاولة منه للمواصلة، لكن ما أن تلتفت نحوه شخصيّة حتى يرى الوجه نفسه الذي يعذّبه ليل نهار.

لحن قديم

 في ثمانينيات القرن الماضي، ولم أكن قد تجاوزت العشرين بعد، صادفتُ جندياً يفتح صدره بسكّين، ثم يقف تحت الشمس طويلاً كي ينظر داخله بمعونة مرآة. في ليل القصف، قرب الساتر، كان يحدّثني عن قسوة أن يغفو بصدر مفتوح، وأن يترنّم، قبل ذلك، بلحن قديم. 

إقرأ أيضا