ماي العروس

يبدو أن الصور الرائعة تبقى محفورة في ذاكرة المرء حتى لو باعدت عنها السنين وغطاها غبار النسيان بطبقة سميكة، وحتى لو اندثرت أماكن حدوثها وتحولت إلى مقاهي انترنت وأسواق عشوائية.. تبقى هذه الذكريات مخزونة في ذاكرة الإنسان، ولعل بعضهم يتلذذ بطعم ما ذاقه من حلاوة في الماضي وكأنها بفمه منذ دقائق.

إن لحظة صفاء قصيرة تعود بنا إلى ماضٍ فيه كثير من الجمال والقبح أيضا، ولعل من رأى أهوار الجنوب، وخاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات، لا يمكن له بأي شكل من الأشكال أن ينسى تلك البيئة والجنة التي كانت.

ورغم أني لم أكن من سكان الأهوار الأصليين، بل كنت لاجئا مؤقتا فيها أيام قصف المدن المتبادل في حرب الثمانينيات، حيث كنت أتلمس جمال الهور بصور تسحر كل من يراها لأول مرة، وما زالت عالقة في ذهني، ومن تلك الصور (ماي العروس).

فبعد أن يقطع نهر الفرات طريقه الطويل من المنبع التركي حتى يصل هور الحمار بين الناصرية والبصرة؛ يخرج باتجاه البصرة من ناحية المدَينة شمالا إلى زاوية وأطراف قضاء القرنة، وفي هذه المنطقة تتفرع منه عشرات الأفرع مكونة مسطحا مائيا.. مرورا بناحية الهوير (100 كلم) شمال مركز البصرة، حيث يمر النهر وأفرعه في فلتر كبير بمساحة تقدر بحجم لبنان تنبت فيه غابات من القصب والبردي ونباتات مائية أخرى تصفي وتنقي الماء المار فيها عبر تركيبة سيقان وأوراق تلك النباتات المسامية. هذه التصفية الدقيقة والمكثفة للماء تجعلك تشاهد عدة صور لا يمكن لمن يشاهدها بأي شكل من الأشكال أن ينساها، بل يسجلها بدقة وبتفاصيل منها:

الصورة الأولى: عندما تنظر إلى الماء في الصباح الباكر يمكنك أن تشاهد أنواعا من الأسماك وهي تسبح بهدوء تام على بعد أكثر من ثلاثة أمتار وقد ترى قاع النهر والرمال والطين حيث النقاوة التي لا مثيل لها.. تقوم هذه الأسماك بأشبه ما يكون تناول وجبة الفطور حيث تقطع بعض سيقان النباتات أسفل الماء لتتناولها ومنها نوع من أنواع النعناع الأخضر تتناوب عليه بانتظام واحدة بعد الأخرى، ما يفسر لكل من يصيد سمكة عندما يشق بطنها انبعاث رائحة النعناع الزكية منها.

الصورة الثانية: بقرة عمتي وهي ترفض شرب ماء الإسالة المقدم لها بإناء كبير ما يضطر عمتي لفتح حبلها (خطامها) لتذهب وتشرب الماء من الهور القريب الذي تضرب أمواجه الهادئة صباحا سور القصب المحيط بالبيت البسيط المكشوف للسماء الزرقاء. إن حاسة شم البقرة لماء الإسالة يجعلها تتحسس طبيعة المواد المضافة فترفض شربه، فتصور كم هي حساسة تلك البقرة من المواد المضافة للماء؟

الصورة الثالثة: مجموعة من الصبية الذين يرمون بأنفسهم من أعلى رؤوس النخيل إلى مسطح الماء ليصلوا بسباق محموم إلى أبعد عمق ممكن بنفس طويل بغية بلوغ القاع لغرض شرب نوع من أنواع الماء القريب من القاع، هناك بين نعناع الهور وعروق البردي حيث يحصلون على رشفات من ماء نادر يسمونه (ماي العروس) الذي يمتاز بلذة فريدة ونقاوة مكثفة وصفاء مختلف عن طبقات الماء الأخرى في ماء الهور، وغالبا ما يأخذ بعضهم أواني ليملأها من أسفل بماي العروس تحسبا لضيف عزيز قادم، أو لملء (الحِب) وهو إناء العائلة الكبير المصنوع من الفخار والذي يشرب منه الجميع وهو يشبه براد الماء في وقتنا الحاضر. وغالبا ما يحصل بعض الغطاسين مع (ماي العروس) على ثمرة نبات البردي، وهي أشبه بجمار النخيل حيث تستقر أسفل قاع النهر، ولها طعم لذيذ وتمتاز بصعوبة الحصول عليها هي و(ماي العروس). ويسميه الصبية ماي العروس (لحلاته وغلاته) عندهم وشدة التنافس بينهم لبلوغ الأعماق والظفر به، وهو يشبه السباق للحصول على العروس الجميلة ذات المهر الغالي.

إن عشرات مشاريع تنقية الماء وتصفيته، وعشرات معامل تعبئة الماء المُعامل بالأوزون هذه الأيام لا تساوي مقدار رشفة (ﭽغمة) من (ماي العروس) الذي انقرض بانقراض أهوار الجنوب.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا