مسؤولية تركيا وإيران عن كارثة التلوث البيئي في العراق

بدءاً، نود التأكيد على أننا لا نعني بعنوان هذا النص ومتنه، إنكار أية مسؤولية للدولة والمجتمع العراقيين عن التلوث البيئي وقصرها على تركيا وإيران، بل أردنا تحديدا تسليط الضوء على دور هاتين الدولتين في الكارثة البيئية التي يتعرض لها العراق، مشيرين أيضا إلى مسؤولية دولة الاحتلال \”الولايات المتحدة الأميركية\” وحلفائها عن دور كبير لها في هذا الملف المأساوي.

لقد سجَّل العراق وسوريا في مذكرات دبلوماسية رسمية، اتهامات قوية وموثقة بشكل جيد ضد تركيا بسبب سياسياتها المائية وبناء السدود وتسببها في تردي نوعية المياه الواردة إليهما. فقد ورد في مذكرة عراقية وجهت إلى تركيا في 4 كانون الثاني 1996 تأكيدٌ على أنَّ  (النقص في كمية المياه صاحبه تردٍّ خطيرٌ في نوعيتها بسبب زيادة نسبة الملوحة ونسب التراكيب الكيمياوية الأخرى، وأنّ الأمر يزداد سوءا مع كلِّ مشروع تركي جديد، ومع استمرار تركيا باستخدام المواد الكيمياوية في زراعة الأراضي ضمن مشروع جنوب شرقي الأناضول، وإعادة تصريف نسبة كبيرة من المياه التي تستخدم في ري تلك الأراضي باتجاه المجرى الرئيس للنهر. فلقد بات ذلك ينذر بكارثة بيئية خطيرة، تهدد الحياة البشرية في حوض نهر الفرات في العراق، إضافة إلى تهديدها للإنتاج الزراعي والحيواني فيه).

وقد برَّأت تركيا نفسها في مذكرتها الجوابية في السنة ذاتها، واتهمت سوريا بالمسؤولية عن تلوث مياه الفرات، ولكنها سكتت عن التلوث في نهر دجلة. وقالت إنَّ هناك أدلة واضحة على تلوث مياه نهر الفرات بكثرة بسبب طرق الري غير الصحيحة التي تستخدمها سوريا. ومن الواضح أيضا، أنّ أية شكاوي عراقية حول التلوث، يجب أنْ توجه إلى سوريا، باعتبارها دولة أعلى المجرى المائي مباشرة بالنسبة إلى العراق. أما سوريا فقد اشتكت بدورها من التلوث، وحملت مسؤوليته لتركيا في مذكرة دبلوماسية رسمية ورد فيها ( أنَّ قيام الحكومة التركية ببناء مجموعة من السدود على مجرى نهر الفرات، والشروع بري أراضي جنوب شرق الأناضول من مياه الفرات يلحق ضررا جسيما بحقوق سوريا في هذه المياه. وقد بدأ تسرب المياه الملوثة من تركيا إلى الأراضي السورية، عبر وادي الجلاب\” ابليخ\” إذْ أنَّ نسبة التلوث في هذه المياه بلغت حداً تجاوز كل النسب المقبولة عالميا، حيث تجاوز مجموع الأملاح المنحلة فيها 1800 ملغ/ ليتر، حتى إعداد هذه المذكرة. وهي نسبة تتعدى بكثير النسب النظامية العالمية ( بحدود 800 ملغ / ليتر)، مما يؤكد خطورة تسرب هذه المياه على البيئة في حوض الفرات وعلى الأراضي التي تشكل القسم الأعظم من الأراضي الزراعية السورية). وجاء الرد التركي رافضا لهذا الاتهام، ومعتبرا أنَّ تركيا ( مارست على الدوام الجدية اللازمة في استخدام مجرى مياه الفرات. ولذلك، فإنَّ تركيا ترى الادعاء بأنَّ الري الحالي في تركيا يسبب التلوث في سوريا أمر غير مقبول). وقد اقترحنا في مناسبة سابقة أن يقوم العراق وسوريا بإقامة محطات لحساب الوارد المائي وفحص نوعيته عند الحدود الدولية بحضور دولي رسمي لحسم المسؤولية عن هذا التلوث. غير أن من الخطأ تماما، تحميل مسؤولية التلوث في المياه لتركيا وسدودها فقط، فلسوريا دورها الثقيل أيضا، بل أنَّ السلطات العراقية تتحمل مسؤولية كبيرة عن هذا التلوث نتيجة لعقود طويلة من إهمال البنية التحتية الخاصة بذلك وتقاليد استخدام الأنهار والمسطحات المائية وأساليب الصرف الصحي البدائية وغيرها.

هناك أيضا مسؤولية ضخمة تتحملها إيران، التي تضخ آلاف الأطنان من المياه الملوثة بالنفايات الصناعية إلى أهوار وأنهار العراق، ما أحدث كارثة كبيرة للأحياء المائية وغابات النخيل والمزروعات الأخرى في جنوب العراق. إنَّ التلوث الشامل في العراق، وانعكاساته على النظام البيئي، وصل في بعض أوجهه إلى نقطة اللارجعة،  بحسب بعض المتخصصين ومنهم د. حسن الجنابي سفير العراق لدى منظمة التغذية \”الفاو\”، والذي كتب قائلاً (إنَّ البيئة العراقية بحاجة إلى ما يشبه المعجزة لإعادة حيويتها وتنوعها، وأنَّ الزمن لا يرحم، بل أنه لم يعد زمن للمعجزات بل زمن العمل الشاق والمستمر، والبيئة بطبيعتها نظام هشّ يسهل تحطيمه، ولكن يستحيل اصلاحه دون خسائر فاجعة). ويوضح د. الجنابي أنَّ العراق، الذي شهد الكثير من الفظاعات في الثلاثين عاماً الأخيرة، ابتدأ الانحدار السريع لنوعية الحياة والبيئة مع الحرب العراقية الايرانية في مطلع الثمانينات، وما نتج عنها من تدمير متعمد لأكبر  نظام ايكولوجي في الشرق الاوسط وغرب آسيا، وهو نظام الأهوار في جنوب العراق، حيث جففت بقرار سياسي وأمني، تزامن لسوء الحظ مع السيطرة المطلقة على تدفق المياه في حوض الفرات من قبل دول الجوار).

وإذا ما ترافق هذا الواقع المتردي، مع افتقاد المؤسسات الحكومية إلى الوسائل العلمية لقياس مستويات التلوث وتوزيعها الجغرافي، فإنَّ وقع الكارثة سيكون أكبر. هذا ما يؤكده مثلا تصريح لمستشار وزارة البيئة العراقية، الدكتور رعد محمد صالح، لوسائل الإعلام العراقية جاء فيه (إنه لا توجد امكانية لتحديد نسبة التلوث في العراق، لعدم وجود الأجهزة الخاصة بذلك، فيما أوضح المهندس لؤي المختار من قسم تقدير الاثر البيئي بوزارة البيئة وجود العديد من المناطق الملوثة في العراق والمقدرة بالمئات. وأكد مستشار وزير البيئة في تصريحات صحفية على هامش الاحتفالات بيوم البيئة العالمي الذي وافق اليوم الخامس من حزيران يونيو، عدم وجود الأجهزة الخاصة لقياس نسب التلوث في الهواء وتحديدها ومعرفة كيفية معالجتها).

المياه الجوفية بدورها لم تسلم من التلوث. فهي وإنْ كانت تتجمع تحت قشرة الأرض الخارجية، وتعتبر من أهم المصادر المائية التي توليها الدول أبلغ الاهتمام للمحافظة عليها ومنع التلوث البيئي من الإلحاق بها فهي عرضة للتلوث بما يتسرب إليها من مياه التصريف الصحي ومياه الإرواء المسترجعة الملوثة بالأسمدة الكيمياوية وغير ذلك.

إنَّ التلوث البيئي عموما، والاستخدام العشوائي للمياه الجوفية، يهددان ثروات المياه الجوفية التي توفر ربع احتياجات العالم من المياه. وينقل المهندس العراقي حسن ثجيل خالد في مقالة له بهذا الخصوص عن أنَّ عدة تقارير للأمم المتحد حذرت من (احتمال تضاؤل المياه الجوفية بسبب التلوث والنضوب، وتدعو التقارير إلى التشدد في مراقبة وسائل التخلص من نفايات البيئة ومياه المجاري، وإلى اتخاذ الإجراءات التي تحد من تلوث الأرض بالمواد الكيميائية الضارة، مع السيطرة على كل ما يهدد المياه الجوفية).

نفهم أيضا من هذه المقالة (أنَّ المياه العذبة المنسابة عبر الأنهار، يتجمع قسم منها ويبقى لفترات طويلة كمياه جوفية تحت الطبقة الصخرية للأرض، وتختلف مناسيب هذه المياه وفقا لتغييرات الطقس وكمية الأمطار حيث تزداد في الشتاء وتنقص في أواخر الصيف بسبب كثرة التبخر. وحيث أنَّ المياه الجوفية تمثل مصدرا مهما من مصادر المياه الصالحة للشرب والرى، فإنَّ الإسراف في استخدامها وتلوثها بالمواد الضارة يشكل تهديداً مستمراً لهذا المصدر المهم للماء العذب. ومن المشكلات التي تهدد المياه الجوفية انهيار الأراضي وتسرب المياه المالحة للآبار الساحلية.

تلوث المياه السطحية يؤدي بدوره إلى نتائج مدمرة على الحياة السمكية والنباتية وقد وقعت كارثة حقيقية في هذا السياق، وقد اعترف بها د.علي عبد الزهرة اللامي، مستشار وزارة البيئة، و رئيس اللجنة الوطنية لاتفاقية التنوع البيولوجي، حين أكدَّ (أنَّ أنواعاً – حيَّة- كثيرة مهددة بالانقراض بسبب شحة المياه منها مائة وستة أنواع من الأسماك، منها ثلاثة وخمسون  نوعا من السمك البحري، وثلاث أنواع متوطنة في دجلة والفرات إضافة إلى انقراض  ثعلب الماء، المتوطن في الأهوار. وقد لفت الكاتب نظرنا إلى أنَّ عشرة أنواع من البرمائيات و97 نوعا من الزواحف مهدد بالانقراض في العراق. ناهيك عن المحاصيل الزراعية والحيوانية منها الحنطة – الشعير – العدس – الأغنام – الماعز. أما عن المساحات الزراعية التي باتت لا تصلح للزراعة فيشير الباحث إلى  أنها تقدر الآن بـ (78 % ) أما تلك القابلة للزراعة فـ (21 % ) لتمثل الزراعة  بحدود (6-8% ) من الناتج المحلي.

باحث آخر هو صاحب الربيعي، سلط ضوءا مهما على موضوع تلوث المياه في نهري دجلة والفرات بسبب المشاريع المائية التي أقامتها دول أعالي النهرين كما يقول. فقد بلغ التلوث في مياه هذين النهرين معدلات غير مسبوقة جعلته يسجل حقيقة مخيفة مفادها أنَّ ( المياه المتدفقة نحو الأراضي العراقية عبارة عن مياه ملوثة ذات تراكيز عالية من الأملاح). ويذكر الكاتب أنَّ وزير الموارد المائية العراقي السابق لطيف رشيد  صرح بتاريخ 28 / 7 / 2009  قائلاً ( إنَّ حجم تلوث مياه نهر الفرات عند مدينة القائم بلغ 1200 جزء في المليون ). وهي نسبة تقل كثيرا عن نسبة التلوث التي سجلتها السلطات السورية والبالغة  1800 جزء في المليون، مثلما ذكرنا في مقدمة هذا الفصل نقلا عن مذكرة دبلوماسية سورية. و للوهلة الأولى، تبدو هذه الأرقام متناقضة، فلا يعقل أن تكون المياه في دولة من دول أعلى المجرى \”سوريا\” أكثر تلوثا من دولة أدنى المجرى أي العراق. وربما نجد تفسير هذا التناقض في الفارق الزمني بين التاريخين اللذين سجلت فيهما نسب التلوث موضوع النقاش.

 وعن وزير الصحة، ينقل الكاتب سالف الذكر، إقراره بعدم وجود تقنيات لمعالجة نفايات معظم المستشفيات، حيث يتم التخلص منها عبر مجاري الصرف الصحي). ويستنتج الربيعي من كلِّ ما تقدم الخلاصة التالية ( وبذلك يمكن تقدير حجم التلوث لمياه نهري دجلة والفرات في جنوبي العراق بين ( 2700 – 3000 ) جزء في المليون، علماً بأن معايير منظمة الصحة العالمية لا تجيز استخدام المياه التي تزيد نسبة التلوث فيها على 500 جزء في المليون – باعتبار التنقية الذاتية لمياه النهر قادرة على إزالة تأثيراتها السلبية- للاستخدام البشري). وبكلمات أكثر دراماتيكية يقول ( بمعنى آخر، فإن سكان جنوبي العراق يستهلكون في حياتهم اليومية مياه صرف صحي لمدن وأرياف أعلى النهر، لذلك يعاني معظمهم من أمراض خطيرة وزادت الاصابات السرطانية والولادات المشوهة في السنوات الأخيرة). هذه الكلمات تذكرنا مرة أخرى بكارثة التلوث التي حلت بمناطق زراعة الصويا المعدلة جينياً في البرازيل، وبسبب الاستعمال المفرط للأسمدة و مبيدات الحشرات  الكيمياوية، إضافة إلى ما تتركه البذور المعدلة جينيا من سموم في التربة وتبقى فيها لعدة أجيال. وقد انتهت تلك التجربة في البرازيل إلى تحويل مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة هناك إلى أراض قاحلة جرداء ومسممة بالمواد المسرْطِنة فهجرها أغلب الناس ومنعت الزراعة فيها رسميا ولكن بعد فوات الأوان.

*كاتب عراقي

إقرأ أيضا