من البيت إلى غادة السمان

في تقاطع الشارع التجاري، وعلى جهة اليمين يواجهك شعار \”نمضي معاً يداً بيد\”، وعندما تتجاوزه قليلا وتدخل إلى عمق الشارع المزدان بأشجار ما بعد التغيير، تنتصب أمامك مدرسة تختلف عن المدارس الحكومية لكونها أكثر زهوا بخيلاء الملايين التي يدفعها الطلاب كأقساط سنوية. بعد قليل تصل إلى مرطبات الواحة التي تعرضت لتفجير بسيارة مفخخة قبل مدة وراح العشرات فيه قيل إنهم جرحى. ما إن تسير قليلا وتصل تقاطع \”الجمهورية\” حتى تجد على اليمين مدرستي \”المقداد\” المحطمة أيام الحصار، والتي تبعث اليأس والإحباط في نفوس التلاميذ بافتقارها إلى كل شيء، فلم تكن إلا عبارة عن مكب للقمامة، تغيرت أحوالها الآن وصارت صرحاً متعدد الطوابق تبعث فيَّ شوقاً ممزوجاً بألم على حالنا في تلك الأيام لكوننا لم نحظ بمثل هذه البناية، يجاورها في الشارع المقابل بناء كبير قيد التشييد كأقسام جميلة لطلاب معهد التدريب النفطي. ما إن تنزلق في عمق شارع \”المكينة\” حتى ترى مدرجات ملعبها إلى الجماهير، شركة النفط بساعتها الخشبية ذات الشناشيل توحي للبصرة بمستقبل لا بأس به، إذا جرت الأمور كما هو مخطط لها، علقت على سياجها الخارجي لافتة تحمل نبرة مناطقية \”البصرة للبصريين\”.

ورصيفها الذي تم استبداله أكثر من مرة، حتى صار مثارا للتندر، النافورات المتعددة الطوابق التي لم ترو ظمأها للماء مع أنها في \”بندقية الشرق\” لكثرة أنهارها وجريان شط العرب فيهاا حيث لم تعمل منذ سنين، عن يمينها مطعم دينار حيث يجلس صاحبه \”الحجي\” بهيبة ووقار على كرسيه، صيدليات وأسواق وبسطات للفواكه مخصصة للطبقة المرفهة لارتفاع أسعارها.

يصل بك الشارع المكسو حديثا بالقير إلى مطاحن الحبوب التي تشبه قلاع العصور الوسطى بلونها الرمادي وارتفاعها الشاهق، تقابلها في الشارع الآخر قيادة الشرطة المتخبطة، ينتقل بك الجسر الصغير، إلى أطلال مديرية المخابرات السابقة التي كان يسكنها أصحاب الأفواه المعوجة والشاهدة على أقذر مراحل التاريخ التي مرت على العراق، والتي تحولت إلى شقق سكنية للفقراء، بعدها بناية كان يشغلها مكتب الشهيد الصدر إلى ما قبل صولة الفرسان والشاهدة على مرحلة أخطاء كبيرة يجري تصحيحها الآن! ومقابلها بناية المكتب الجديد الذي أصبح أكثر هدوء مما كان سابقا. شارع اللجنة الاولمبية الذي أصبح مركزا لمولات بيع الملابس التركية يحكي ظهور حياة جديدة في المدينة. تصل مفرق العروسة، وهو عبارة عن دائرة، في مركزها ساعة مرتفعة، وحولها زرع عدد من الأشجار والنخيل، اكتست اسمها من أستوديو التصوير الشهير المسمى \”تصوير العروسة\” القريب منها. ما إن تصل إليه حتى ترى العديد من السيارات المزينة بالورود، والتي خصصت لنقل العرسان الجدد، مقابلها يصطف محطمو القلوب الذين ينظرون بعيون باكية إلى ضياع أحلامهم في استوديوهات التصوير وهن ممسكات برجال جدد لم يشهدوا يوما طعم الحزن ولم يشاركوا في ماراثونات البكاء الليلية. ما إن ينتهي موقف الحزن هذا حتى تصل مدخل منطقة العشار، ماراً بنصب \”قبضة الهدى\” وهي أول مجموعة تم إعدامها من الدعاة. على يمينك بناية الرقابة المالية، وهي دائرة جديدة استحدثت لمراقبة هدر الأموال العامة فقط. البريد القديم يقابله مرآب المربد الذي صار سياجه الخارجي أسود لكثرة اللافتات التي تعلن وتؤبن انتقال عدد من البصريين إلى العالم الآخر. بناية كبيرة تشيد تحمل اسم \”اللامي مول\” على قبر سينما الكرنك. قطع كونكريتية لحماية السوق من السيارات المفخخة. ما إن تلج السوق مع زحام الباعة والمتسوقين وصخب أصوات أصحاب البسطات لتهرب من الزقاق الضيق في الشارع الذي يضم مطعم أبو ستار الشهير حتى تدخل في تعرجات أزقة العشار القديمة وبيوت الشناشيل. تسير بخطى متعثرة في الشوارع المقفرة لتصل المكتبة العلمية لصاحبها الودود الدكتور حسين، عندها تستطيع اخذ نفس عميق وطرد شبح كل تلك الصور، لتركز في العناوين الكثيرة المصفوفة في رفوف المكتبة. بحثت عن الماغوط، فلم أجده، بينما ماركيز لا توجد له أعمال جديدة. سألته عن روايات الصديق مرتضى كَزار.. فقال الدكتور انه لم يطبعها مرة أخرى.. طلبت منه أن يتفق معه لعله ينوي طباعة نسخ أخرى وقلت له سأعينك عليه لإقناعه. وأنا ابحث في الرفوف عن عناوين وقعت عيناي على \”ليل الغرباء\” لغادة السمان، وجدته متنفسا لقراءة أدب النساء بعد الملل من قراءة أحلام الرجال وتجاربهم.. لنقرأ قليلا ما خطته دموع وأنامل النساء المرهفات. رجعت بليل الغرباء بعد صخب شراء الكتب وحاجات البيت الأخرى.

تمطر تمطر

تمطر برداً رمادياً وسأماً.

تمطر منذ الصباح، وعلى وتيرة واحدة… هكذا تبدأ غادة ليل غربتها.

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا