الصحافة بين الـ(Report) والـ(Robot)

من البصرة، فالمنفى، … إلى البصرة، بعد 22 عاما ها أنا أتساءل بحسرة متصوف لا يجيد العمل بالتقية: هل حقا عدت لشعبي الذي تغربت عنه ومن أجله؟ قال لي رفيقي \”عبد الحسين الربيعي\” مرة: هل شعرت يوما بأنك \”مشجع الفريق الخاسر\” إلا أنني أصررت على أن أقامر بما تبقى من عمري .. بعائلتي .. وراحتي الشخصية وأضع بين يدي شعبي تجربة فريدة وخبرة اكسبتني إياها رحلة منفى لم أترجل فيها عن فرس \”الهم والهمة\” التي ورثتها عن الشريف الرضي، حاملا طيلة ذلك الوقت الخشن خشبة دعبل الخزاعي على ظهري لم أجد من يصلبني عليها.

لكن بلاداً كالعراق باض فيها الشر وفرخ، حتى تطبع أهلها \”بطبائع الاستبداد\” وصاروا ضحايا \”مصارع الاستعباد\”، بلاداً اكتسبت مهارات شر غريبة معقدة النسج محبوكة النهايات لا طاقة لمن لم تحقنه الديكتاتورية بفايروس الحصار فهم طلاسمها، ولا فك شيفراتها الوراثية، بلاداً كبلاد ما بين النهرين باتت ترى من يعطي يرشي، ومن يأخذ يسرق، وليس التصدق رشوة، ولا نيل الحقوق سرقة.

حين سمعت أن البصرة تريد إنشاء قناة فضائية لم تسعني فرحتي بالخبر، فقررت ترك عملي وتأجيل مشاريعي ومفارقة أسرتي وجئت طوعاً لأكون أول المتبرعين بعمره، وماله، وجهده، وخبرته، بلا ضمانات ولا مغريات، ومن ذا الذي يعطيك ضمانات في بلد المفخخات؟ أو ما الذي يغري في بلد العراك والتصفيات؟ وصلت مدينتي فرحاً بتحقيق مشروع ينتشل البصرة من الضياع، ويستنقذ أهلها من التغييب. ولم يدر في خلدي أن الانتحاري الذي يفجر نفسه في عدوه \”فيقتل ويقتل\” يمكن لزميل في العمل أو موظف من الدرجة الثالثة أن يوازيه في قتل خطط البناء ليسرق قناة البصرة أو يحول دون تمامها.

لم أضع في حسابات تأسيس قناة البصرة أن قناة فضائية أخرى ستحرض نواب البصرة عليّ، وأن نائبا مثل السيد جواد البزوني سيستدرج دون غيره من النواب أو \”يؤخذ حياءً\” بطيبتة البصرة وبساطتها فيقدم على توقيع توكيل محامٍ رشحه المغرضون، فيما ينتظر العراق بملايينه الثلاثين من أعضاء مجلس النواب أن يطوروا قابلياتهم البرلمانية ويحسنوا أداءهم دون مواجهات.

ليس من الحكمة أن يضع البرلماني نفسه في مواجهة مواطنيه، ولا أن يهدد صحفيا ـ مهما كان موقعه ـ بمقاضاته بتهمة \”القذف\” وهو يعلم أن المادة 433 تجرم القذف \”الا اذا كان القذف موجها الى موظف او مكلف بخدمة عامة او الى شخص ذي صفة نيابية عامة او كان يتولى عملا يتعلق بمصالح الجمهور وكان ما اسنده القاذف متصلا بوظيفة المقذوف او عمله\”.

فمتى يدرك \”النواب\” أن من حق الشعب الذي كلفهم بخدمته أن \”يقذفهم بالدليل\” بل من حقه أن يتهكم عليهم أو يسخر من أدائهم، لأن السخرية والتهكم تختلف كلياً عن القذف لا سيما في إطار \”مصالح الجمهور\” (تتطهر النفوس بالملهاة كتطهرها بالمأساة)، وهل يدرك الصحفيون أن سكوتهم على استسهال النواب إقامة الدعاوى ضد السلطة الرابعة سيدفع من ينوب عنهم إلى التمادي أكثر، ويفاقم من قمع الحريات المدنية، ويحوّل الصحفيين إلى مجرد روبوتات تحمل كاميرات وميكروفونات لا أكثر.

من حسن حظك أن يكون في بلادك برلمانيون كبار يرفعون مستوى الحريات، كما أن من حسن حظ البرلمانيين أن يكون في بلادهم صحفيون كبار يعينونهم على أداء مهماتهم البرلمانية بمهنية صحفية عالية، لا أن تبقى علاقة الصحفي علاقة التقرير بالزيتوني. فسكوت الإعلام أشد موتاً من تكميم الأفواه.

شكرا لكل الكبار الذين آزرني في موقفي، وحظاً موفقاً في المرات القادمة لمن التزم الصمت. 

إقرأ أيضا