عود ثقاب للعالم الجديد

يُخرجُ لفافة تبغه رافعاً قبعته ليشعلها بعودِ ثقاب يحتكُ متوهجاً بطرفِ قطعة حديد ملتصقة بحذائه، هذا مشهد من افلام الكاوبوي لكلينت ايستوود الذي طالما جعلنا نبتسمُ بنَشوةٍ غامرة ونحن نشاهد فيلم السهرة على القناة التاسعة، انقرضتْ هذه الافلام واندثرت القناة التاسعة ومعها السابعة كما ديناصور من العصر الطباشيري، كما الإنسان الذي شيعناه بعد حروبنا الكونية، تلك التي أخذت معها كلّ شيء، ليغادرنا الإنسان الذي أنتهى تقريبا عند حدود العام 1989، لندخل بعدها عقودا أخرى وننجب اناسا لا نعرفهم، حتى السجائر التي كنا نشعلها متباهين أو متمثلين بأولاد الكاوبوي، باتت الكترونية أو نشعلها بقداحة، الأمر باهت لا شك، عود الثقاب الذي ما فارقني بصورته، خاصة وأن عمي يُشعل به سيجارته ثم يرجعه للعلبة ليستعمله فيما بعد، كأن يُخرج به بقايا الطعام من أسنانه أو يحكُّ به أذنه، وربما يُشعل به الحرائق الصغيرة التي تؤدي فيما بعد إلى اشتعال كوني كبير يصعب إخماده وإطفاءه، فمستعظم النار كما يقولون من مستصغر الشرر، وله في عود الثقاب حالة الوعيد، إذ كان يهددنا به كلما تجاوزنا حدود اللعب واللياقة في طفولتنا، فبه يكوي أيادينا الغضة، ويحرق شفاهنا الحمراء الطرية، لم يكن قاسياً لكنه يفكر على مهل، وعود الثقاب دليل المتمهلين فهو يحرق بشكل بطيء جداً ولا ينشب النار دفعة واحدة ولا يظهر الحرق إلا بعد حين، ولعمي بعود الثقاب إلى جانب هذا كله مآرب أخرى.

كان العالم من حولنا ينمو، والعود الصغير ذو الرأس المليء بالكبريت الأحمر أو الأخضر يتراجع وينحسر غالقاً على نفسه باب الزمن وعلبة الكبريت الصغيرة، الزمن الذي يطاردنا لنهرول في نفق التقنية الحديثة، تاركين خلفنا الثقاب وأيامه، مكرهين على الخروج من العلبة، فرائحة الزمن تتلاشى والغياب سمة واضحة له.

مرة أخبرني صديق لي مستذكرين معاً السجون العراقية، كيف أنه في واحدة من السجون الظلامية مع رفاق آخرين كانوا يشطرون عود الثقاب إلى نصفين ليوفروا على انفسهم عملية استهلاك العود الواحد. وهذه العملية تتطلب جهداً بالغاً وتركيزاً فريداً، أن تشطر العالم إلى نصفين أهون بكثير من أن تفعلها مع عود ثقاب.

ربما اليوم، وفي ذات الأقبية السرية، يستعمل السجناء القداحة ألالكترونية وكما يبدو ثمة أكثر من مكيف للهواء يلطف الجوّ من حولهم، وشاشة عرض بلازما، وإنارة جيدة بالإضافة إلى طلاء الجدران بألوان زاهية، هكذا ينعم السجين اليوم، وهو نزيل أكثر منه سجين على ما يبدو، قد ينعم براحة أكثر منّا نحنُ الذي صرنا نتوق إلى علبة الكبريت وسجائر بغداد وسومر، ليس لأن طعمها جيداً، ولكن لما ترافقها من رائحة ذاك الزمن، الزمن الذي ينهار ماضيه بمجرد ان تصعد فوق بنائه طابوقة الحاضر. الغريب أن هذا الانهيار الدائم للزمن يشمل الجزء المادي منه فقط، ولا يشمل ذاكرته، فمن الواضح اننا نقبع رغما عنّا في الماضي الذي يحركنا مثل دمى، دون شعورنا بحاجة إلى مستقبل أو حاضر يفكر، إذ أن الحاضر والمستقبل قد كُتب سلفاً عبر الزمن الماضي. ولعود الثقاب القديم الفضل كله بإشعال نار الحاضر الكبيرة ورماد المستقبل القريب.

رغم اننا ابتعدنا كثيراً عن زمن الثقاب، وصار كلينت ايستودد عجوزا يركب سيارات الشوفرليت بدل الخيول، تاركاً لفافة التبغ ليدخن الماركات الدارجة من سجائر عادية، بلا عود ثقاب، إلا أن صفة الحرق ملازمة للإنسان وخصوصاً لنا، صفة ورثناها من زمن بعيد، الحرق البطيء الذي يتلذذ الحارق به، قد ينام العالم ليلة لكن ما من شك عندي أبداً من احتراقه في الصباح الباكر، إذ ان المكائدُ التي كانت تدبر ليلاً، عمليات التصفية والتهريب والقتل، التي كان رفيقها عود الثقاب الصغير، والذي كان بدوره وفياً لجلاّسه، ناعماً وصامتاً ومتأثراً، مازال يعمل بصيغ مختلفة ومجالات شتى، ابتداءً من لعبة الأطفال الهائلة في حرق دمى اصدقائهم، وليس انتهاءً في عملية حرق الصحف والصحفيين، فغلق صحيفة (العالم) لم يكن بقرارٍ مستعجلٍ سريع، هو جاء عبر عود ثقاب قديم نشب في قشِّ أيامها الأولى، ليأتي على كل محاصيلها في فترة نضج كاملة، صاحب عود الثقاب هذا يرقب الآن عودة (العالم الجديد) مهيئا علبة الكبريت خاصته، لن يتوقف حتى يشعل رامياً الثقاب في مكان بعيد، هذا ليس مهماً أبداً فالاشتعال سيكون حاضراً على الدوام، الأكثر أهمية من الثقاب ذاته، هي النار العظيمة التي ستحرق وجوههم دوماً ويُصعب إخمادها. مازالت نار صحيفة (العالم) قائمة، وعلى قبس اشتعالها ولدت (العالم الجديد).

* كاتب وشاعر عراقي

إقرأ أيضا